أسلوب القسم في القرآن الكريم
بلاغته وأغراضه
تمهيد:
أسلوب القسم في اللغة ، طريق من طرق توكيد الكلام ، وإبراز معانيه ومقاصده على النحو الذي يريده المتكلم ، إذ يؤتى به لدفع إنكار المنكرين ، أو إزالة شك الشاكين .والقسم من المؤكدات المشهورة التي تمكن الشيئ في النفس وتقويه ، ومعلوم أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب ، وعلى أسلوب كلامهم ، ومناحي خطابهم ، وكان من عادتهم أنهم إذا قصدوا توكيد الأخبار وتقريرها ، جاءوا بالقسم ، وعلى هذا جاءت في القرآن الكريم أقسام متنوعة ، في مواضيع شتى ، لتوكيد ما يحتاج إلى التوكيد .
والأقسام التي جاء بها القرآن الكريم على ضربين :
الضرب الأول : - ما ورد على طريق الحكاية ، في ضمن ما قصه القرآن من قصص المخلوقين ، كقوله تعالى حكاية لقول إبراهيم – عليه السلام – لقومه : - ( تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ) وكقوله سبحانه مخبرا عما كان يقوله كفار مكة ، قبل بعثة المصطفى – عليه الصلاة والسلام – ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ).
وهذا الضرب من القسم كثير في القرآن ، وليس من غرضي أن أخوض فيه في هذا البحث .
الضرب الثاني : ما أقسم الله تعالى به ، وهذا على نوعين :
النوع الأول : القسم المضمر ، وهو القسم المحذوف ، المدلول عليه بجوابه المقرون باللام ،
كقوله تعالى : ( لتبلون في أموالكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) تقديره : والله لتبلون ولتسمعن ، بدلالة الجواب المقرون باللام .
أو المدلول عليه بالمعنى والسياق ،كقوله تعالى : ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ) ، أي : والله ما من كافر إلا وارد النار ، بدلالة المعنى والسياق ، لأن هذه الآية جاءت بعد آيات مؤكدات بالقسم الملفوظ ، وهو قوله تعالى : ( فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا . ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا . ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ) فدل القسم الملفوظ على القسم الملحوظ ، وهذا النوع من القسم كثير في القرآن كذلك ، وهو خارج عن نطاق هذا البحث .
النوع الثاني : القسم الظاهر ، وهو الملفوظ ، وهو ما سيكون عليه مدار هذا البحث .
وقد اشتمل هذا البحث على تمهيد ، وسبعة مباحث ، وخاتمة :
بينت في المبحث الأول : الأصل الإشتقاقي لألفاظ القسم .
وبينت في المبحث الثاني : أركان القسم .
وفي المبحث الثالث : حققت القول في المقسم به المبدوء بأداة النفي .
وفي المبحث الرابع : بينت أنواع القسم الظاهر في القرآن الكريم ، وهو نوعان :
النوع الأول : إقسامه تعالى بذاته وصفاته .
النوع الثاني : إقسامه تعالى بمخلوقاته .
وفي المبحث الخامس : وضحت أغراض القسم القرآني ، وأهدافه .
وفي المبحث السادس : بينت الأمور المقسم عليها .
وجعلت المبحث السابع : لبيان بلاغة القسم القرآني .
وفي الخاتمة : استعرضت أهم النتائج .
والله أسأل أن اكون قد وفقت في العرض لهذا الموضوع ، والحمد لله في الأولى والآخرة .
المبحث الأول :
الأصل الاشتقاقي لألفاظ القسم
مادة قسم ( ق، س ، م ) :
لها معنيان رئيسان هما:
أ - التجزئة والتفريق: وهو – القسم – بسكون السين، وجمعه أقسام، وترجع إليه مشتقات عديدة منها: قسم الشيء يقسه قسما ً: بمعنى: جزأه وفرقه، ويكون بمعنى: قدر ونظر، كقولك: هو يقسم أمره، أي: يقدره، ويدبره، وينظر كيف يعمل فيه، قال لبيد:
فقولا له إن كان يقسم أمره ألما يعظك الدهر أمك هابل
وقسمه – بالتضعيف: للتكثير، أي جزأه، ومنه قوله تعالى: ( فالمقسمات أمرا )
وقاسم فلان فلانا أي: أخذ كل منهما قسمه. واقتسم القوم الشيء بينهم ، أي : أخذ كل واحد منهم نصيبه منه . إلى غير ذلك من المشتقات التي ذكرتها كتب اللغة .
ب : - الحلف واليمين :
وهو القسم – بفتح القاف والسين – وجمعه أقسام ، مثل : سبب وأسباب ، ويستعمل منه الأفعال التالية
1 – أقسم بالله إقساما أي : حلف بالله حلفا ..
2- قاسمه : أقسم له ، أو شاركه في القسم . ومنه قوله تعالى : - ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين )
3- اقتسم : - يقال : اقتسموا : تحالفوا ، ومنه قوله تعالى : (كما أنزلنا على المقتسمين ) ، وهم الذين تقاسموا وتحالفوا على الكيد للرسول – صلى الله عليه وسلم - ، وقيل : هم الذين جعلوا القرآن عضين ، آمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه الآخر .
4 – تقاسم: يقال: تقاسم القوم ، أي : تحالفوا ، ومنه قوله تعالى – (قالوا تقاسموا بالله) ، فهي بمعنى التحالف ، أو طلب بعضهم القسم من بعض .
5- استقسمه بالله : طلب منه أن يقسم به .
6- القسامة : ومن معانيها : اليمين ، والجماعة يقسمون على حقهم ويأخذونه ، يقول الراغب :
(إن القسم بمعنى اليمين ، أصله من القسامة ، وهي أيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا على رجل أنه قتل صاحبهم ، ومعهم دليل دون البينة ، فيحلفون خمسين يمينا تقسم عليهم ، ثم صار اسمل لكل حلف ، فكأنه ( أي :القسم ) كان في الأصل تقسيم أيمان ، ثم صار يستعمل في نفس الحلف والأيمان
والعلاقة بين هذين المعنيين الرئيسين للقسم وثيقة الصلة ، قوية الرباط ، فما جعل القسم إلا للتفريق بين الحق والباطل ، وما التجئ إليه إلا لتحديد الأنصباء ، وتوزيع الحظوظ ، والفصل بين الخصومات .
2 : مادة ( ي، م ، ن ) :
بزيادة ياء قبل الحرف الأخير : يمين على وزن فعيل ، لها عدة معان ، منها :يمين الإنسان ، والقوة ، والقدرة ، والمنزلة ، والدين ومن معانيها : الحلف والقسم ، وهو المعنى الذي يهمنا بالدرجة الأولى .
واليمين مأخوذ من أن المتحالفين ، والمتعاهدين ، قد يضع كل منهما يمينه في يمين الآخر ، فصار الحلف يسمى يمينا ، قال تعالى : ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم ..)
قال في مختار الصحاح : ( واليمين : القسم ، والجمع : أيمن ، وأيمان ، وقيل : إنما سميت بذلك ، لأنهم كانوا إذا تحالفوا ، ضرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه )
وقال أبو اسحق ابراهيم بن عبد الله النجيرمي : - ( وأصل اليمين أنهم كانوا إذا تحالفوا وتعاقدوا تصافقوا بأيمانهم ، ولذلك قيل : أعطاه صفقة يمينه على هذا الأمر ، ثم سموا الحلف يمينا على هذا المعنى . وأنثوا اليمين على تأنيث اليد ، فقالوا : حلف يمينا برة ويمينا فاجرة )
3 : مادة ( ح ، ل ، ف ) :
لا تخرج هذه المادة عن معنيين رئيسين هما : القسم ، والعهد . والحَلف والحِلف – بفتح الحاء وكسرها – لغتان في القسم . فالحِلف - بكسر الحاء – : العهد يكون بين القوم ، وقد حالفه : أي عاهده . وتحالف القوم : تعاهدوا،ويكون بمعنى آخى ، وعليه ما جاء حديث أنس : ( حالف رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا ) أي : آخى بينهم .
والحلف – بفتح الحاء - : اليمين ، قال تعالى : ( ولا تطع كل حلاف مهين ) ، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر ، وليأت الذي هو خير ..)
وأصلها : ( أنهم كانوا إذا تحالفوا وتعاقدوا تصافقوا بأيمانهم ، ولذلك قيل : أعطاه صفقة يمينه على هذا الأمر ، ثم سموا الحلف يمينا على هذا المعنى ).
( ومشتقات هذه المادة لا تكاد تخرج عن معنى القسم واليمين ، وإن خرجت فإلى ما يترتب عليه من محالفة ومعاهدة والتزام ، فهي أصل في القسم ، تفرعت عنه معان متصلة به ) .
ومع أن كتب المعاجم ترى أن ( الحلف والقسم ) لفظان مترادفان يؤديان معنى واحدا من غير فرق أو تمييز بينهما ، وتفسر أحدهما بالآخر ، ولكن حين نستقرئ استعمال الكلمتين ، وأصل اشتقاقهما لنتعرف على الفرق بينهما ، نجد أن العرب يقولون : ( حلفة فاجر ، وأحلوفة كاذبة ) ، ولم يرد مثل هذا مع القسم .
فالحلف يدور حول الاحتمال والشك والتردد ، وبهذا يكون الحالف غالبا معرضا للحنث كثيرا ، لأنه حلف على الظن ، وليس عن يقين .
وحين نستقرئ البيان القرآني في استعماله لمادة ( ح. ل. ف ) نجدها قد دارت في بيانه الكريم في ثلاثة عشر موضعا ، كلها جاءت بغير استثناء في الحنث باليمين ، وفي آيات مدنية ، وخصوصا في سورة التوبة ، عدا آية واحدة مكية ، هي قوله تعالى في سورة القلم : ( ولا تطع كل حلاف مهين ) ، ثم إن إسناد الفعل غالبا جاء في المنافقين . وحين أسند الفعل إلى المؤمنين في قوله تعالى : ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) كان ذلك لبيان كفارة الحلف عند الحنث . وباستعراض آيات الحلف المسندة للمنافقين ، والتي كشفت حقيقتهم وفضحت زيفهم ، نرى أن اليمين فيها كانت معقودة أصلا وابتداء على خلاف الحقيقة والواقع في أغلب الآيات ، وهم يعلمون ذلك ، وأن الأمر كذب .
قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ). فالحلف يدور في العربية على احتمال الحنث غالبا ، لأنه مبني على الظن ، وفي البيان القرآني يتضح بجلاء أن اليمين في الحلف معقودة غالبا على الحنث أصلا ، حيث يحلف المنافقون على خلاف الحقيقة ، التماسا للعذر ، دون مبرة في الحلف ، أو صدق في اليمين .
أما القسم : فتفسره المعاجم بالحلف دون أن تذكر فرقا بينهما ، إلا أننا نجد صاحب القاموس يقول : ( والقسم : العطاء والرأي .. وأن يقع في قلبك الشيء فتظنه ، ثم يقوى ذلك الظن فيصير حقيقة ). فكأن القسم في بعض اشتقاقاته اللغوية أقوى في الظن ، وأقرب إلى الحق ، وأبعد عن الاحتمال والشك ، كما هي الحال في الحلف . فالقسم إذا يكون على الشيئ الواضح ، والحق البين ، والأيمان الصادقة ، ولهذا جاء القسم في القرآن بالأيمان الصادقة ، وجاء موصوفا بالعظمة في قوله تعالى : - ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ).
وباستقراء البيان القرآني في استعمال القسم ، يدلنا على أنه يعتبر بحال المقسم عند عقد اليمين ، فيخص القسم بمن كان صادقا عند عقده لليمين ، حتى ولو خالف ذلك الحق ، وجانب الصدق في واقع الأمر ، وإنما كان ذلك هو اعتقاده الجازم ، ونظرته المخلصة في نظر نفسه ، أو على الأقل إيهام المقسم له بذلك . ومن هنا يمكن أن نفهم إشارة القرآن الكريم المتكررة إلى الجهد المبذول عند عقد اليمين من قبل بعض الكفار ، والمشركين ، مما يوحي بصدقهم وإخلاصهم في اعتقادهم ، وإن لم يكن هو الحق . فقد ذكر الله سبحانه وتعالى إقسامهم بالله جهد أيمانهم في خمسة مواضع ، ليوحي اجتهادهم غاية الجهد في هذه الأيمان بصدقهم فيها ، وإن تبين فيما بعد أن الأمر بخلاف ذلك . ومن هنا نرى أن القسم يرد عاما ، من الله سبحانه ، وعلى لسان المسلمين ، والمنافقين ، والكفار ، ويكون في آيات مكية ومدنية ، وغالبا ما يكون صادقا بارا ، وإن لم يكن كذلك في واقع الأمر ، فعلى الأقل في نظر المقسم ، وحسب اعتقاده عند عقد اليمين . تقول بنت الشاطئ في تفسير سورة البلد : [ فقد يبدو من السهل أن نفسر ( أقسم ) بلفظ ( أحلف ) ، وليس في استعمال العرب لهما ما يمنع من تفسير أحدهما بالآخر ، لكن استقراء الكلمتين في القرآن يمنع هذا الترادف …… إلى أن تقول : وأمام هذا الاستعمال القرآني ، لا يهون أن نفسر القسم بالحلف ، وصنيع القرآن فيهما يلفت إلى فرق دقيق بين اللفظين المقول بترادفهما ، فرق يؤيده فقه العربية ، فاختلاف مادتي اللفظين يؤذن باختلاف مدلول كل منهما ، وبين حلف وحنث من القرب ، ما ليس بين حلف وقسم ، مما يبعد أن يكونا سواء ) ]. وهذا فرق كبير واضح ، يكفي لنفي ترادف الكلمتين .
المبحث الثاني :
أركان القسم :
للقسم أركان أربعة :
الركن الأول :
- المقْسِم : وهو إما الله ، وإما العباد .
أما القسم من الله : - فقد قيل : ما معنى القسم منه تعالى ؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن ، فالمؤمن مصدق بمجرد الإخبار من غير قسم . وإن كان لأجل الكافر ، فلا يفيده .
والجواب : إن القرآن نزل بلغة العرب ، ومن عادتها القسم إن أرادت أن تؤكد أمراً ،
كما أن الحكم يفصل باثنين : إما بالشهادة ، وإما بالقسم ، فإذا اجتمعت البينة وهي : الشهادة ، مع اليمين ، على دعوى ، اكتسبت مزيد ثبوت وتقرير ، فذكر الله تعالى في كتابه النوعين ، حتى لا يبقى لهم حجة ، فقال : (شهد الله أنه لا إله إلا هو .. الآية )
وقال : (ويستنبئونك أحق هو ، قل إي وربي إنه لحق ..)
ففي الآية الأولى : فصل الحكم وقرره بالشهادة . وفي الآية الثانية : قرره وأكده بالقسم .
وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى : (وفي السماء رزقكم وما توعدون . فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) صرخ وقال : - من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه لليمين . فالقسم ضرب من البيان ألفه العرب ، ليوثقوا به أنباءهم ، وتبين أنه كثيرا ما يجيئ للإستشهاد والإستدلال على صدق المقال ، فهو إذن نوع من الدليل الواقعي المحسوس ، الذي يستميل المشاعر والوجدان ، ويثير الإنتباه والتفكير .
الركن الثاني : المقْسَم به : ولمجيئه في القرآن الكريم أغراض :
الأول : - أنه قد يكون شيئاً علوياً بعيداً عنا يثير الرهبة والعظمة والجلال ، ويدعونا ذكره والقسم به ، إلى أن يثيرلدينا الفضول العلمي ، وحب الاستطلاع ، فأخذ في توجيه أنظارنا إليه بالبحث والدرس والتحليل ، ومحاولة تسخيره لمنافعنا ، وذلك كالسماء، وما فيها من شمس ، وقمر ، ونجوم ، ومظاهر كونية كثيرة ، فالقسم بهذه الكائنات العلوية ، يدفع الناس إلى البحث والتنقيب ، ونصوص القرآن الدالة على النظر والبحث كثيرة ، منها قوله تعالى : - (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) ،
وقوله تعالى : (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق الله من شيء ). وقد أثبت الواقع أنه كلما تعمق الباحثون في دراسة هذه الظواهر التي أقسم الله بها ، وجدوا فيها من العظمة والجلال ، والقدرة الإلهية ، ما تخر له النفوس ساجدة خاشعة ، قائلة : (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) .
الثاني : - إن المقسم به قد يكون شيئا أرضيا مما يحيط بالإنسان ويتعايش به ومعه ، ويقسم الله تعالى به لما فيه من منافع وفوائد ، كالتين ، والزيتون ، والبحر المسجور ، والأرض وما طحاها .
الثالث : - أن يكون المقسم به شيئا ذاتيا للإنسان ، وذلك كالنفس البشرية التي أقسم الله تعالى بها في قوله : (ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ) ، وقوله تعالى : (ولا أقسم بالنفس اللوامة ). ولا شك أن القسم بهذه الأشياء يفتح للباحثين مجالا كبيرا في المباحث الفكرية ، والنفسية ، والاجتماعية .
الركن الثالث : جواب القسم أو المقسم عليه :
الغالب في المقسم عليه أن يكون في الكلام ، لأنه المقصود بالتحقيق ، وقد يحذف كما يحذف جواب (لو) ، إما : للعلم به ، أو لتذهب النفس فيه كل مذهب . كما في مثل قوله تعالى : (كلا لو تعلمون علم اليقين ) ، فجواب لو محذوف ، تقديره : لو تعلمون علم اليقين عاقبة التفاخر ما اشتغلتم به . وهذه عادة العرب في كلامهم إذا رأوا أموراً عجيبةً ، وأرادوا أن يخبروا بها الغائب عنها .
وأكثر ما يحذف جواب القسم : إذا كان في نفس المقسم به دلالة على المقسم عليه ، فإن المقصود يحصل بذكره (أي المقسم به)، فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز ، كما في قوله تعالى : (ص . والقرآن ذي الذكر) ، فإن في المقسم به من تعظيم القرآن ، ووصفه بأنه ذو الشرف ، والقدر ، ما يدل على المقسم عليه ، وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى ، وتقدير الجواب : إن الفرقان لحق . وهذا يطرد في كل ما شابه ذلك ، كقوله تعالى : (ق والقرآن المجيد) ،
وتقدير الجواب : ما آمن كفار مكة برسول الله- صلى الله عليه وسلم .
الركن الرابع : أدوات القسم :
للقسم أدوات منها : (الباء ، والواو ، والتاء ، واللام ، ومن ) ، قال سيبويه :( وللقسم والمقسم به أدوات في حروف الجر ، وأكثرها الواو ، ثم الباء ، يدخلان على كل محلوف به ، ..الخ ) . والذي يعنينا من هذه الأدوات هي الحروف الثلاثة الأولى ، إذ لم ترد ( اللام ) ، أو ( من ) ، للقسم في القرآن الكريم .
أولها : الباء : وهي الأصل في أدوات القسم ، وهي حرف جر يأتي لأربعة عشر معنى ، ذكر معانيها ابن هشام ، وقال : ( الثاني عشر : القسم ، وهو - أي حرف الباء - أصل أحرفه )
- ومما يؤيد أن الباء أصل حروف القسم :
1- جواز إثبات فعل القسم وفاعله معها ، كقوله تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت .. الآية ) أو حذفهما ، كما في قوله تعالى : ( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ).
2- ودخولها على المظهر والمضمر ، ولا يدخل من حروف القسم غيرها على المضمر ، ومن شواهد دخولها على الاسم الظاهر ، قوله تعالى : ( قالوا تقاسموا بالله لتبيتنه وأهله .. الآية ). أما دخولها على المضمر فلا دليل له في القرآن الكريم ، وهو كقولك : ( أقسم به إني لصادق ) .
3- تستعمل في القسم الاستعطافي : كقول عبد الله بي قيس الرقيات :
رقي بعمركم لا تهجرينا ومنينا المنى ثم امطلينا .
فاستعمل الباء في الاستعطاف في ( بعمركم لا تهجرينا ) .
ثانيها : الواو : وتأتي لعدة معان ، قال ابن هشام : ( انتهى مجموع ما ذكر من أقسامها إلى خمسة عشر ، إلى أن يقول : السادس والسابع : واوان ينجر ما بعدهما ، إحداهما : واو القسم ، ولا تدخل إلا على مظهر ، ولا تتعلق إلا بمحذوف ، نحو : ( والقرآن الحكيم ) ، فإن تلتها واو أخرى ، نحو : ( والتين والزيتون ) فالتالية هي واو العطف ..) ثالثها : التاء ، قال ابن هشام : ( التاء المفردة : محركة في أوائل الأسماء ، ومحركة في أواخرها ، ومحركة في أواخر الأفعال ، ومسكنة في أواخرها . فالمحركة في أوائل الأسماء : حرف جر معناه القسم … )
والتاء تختص بلفظ الجلالة ، وذلك لكثرة الحلف به ، مثل قوله تعالى : ( تالله لآكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ) قال الزمخشري : ( التاء فيها زيادة معنى ، وهو : التعجب ، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده ، وتأتيه ، لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته ، وتعذره )
المبحث الثالث
تحقيق القول في المقسم به المبدوء بأداة النفي :
ورد المقسم به مسبوقا بأداة النفي (لا) في ثمانية مواضع من القرآن الكريم ، وهي :
أ - مقسم به تقدمته أداة النفي مقترنة بالفاء ، وذلك في ستة مواضع من القرآن الكريم ، وكلها في ثنايا السور وهي :
1 - قوله تعالى : - (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم).
2 – قوله تعالى : - (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون).
3 – قوله تعالى : - (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون).
4-قوله تعالى : - (فلا أقسم بمواقع النجوم).
5- قوله تعالى : - (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) .
6- قوله تعالى : - (فلا أقسم بالشفق) .
ب – مقسم به مسبوق بأداة النفي غير مقترنة بالفاء ، وذلك في موضعين :
1- قوله تعالى : - ( لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة ).
2 – قوله تعالى : - ( لا أقسم بهذا البلد ).
وقد تناول المفسرون هذا النوع من المقسم به بالحديث ، ويمكن أن نجمل حديثهم عنه فيما يلي :
الرأي الأول : وحاصله : ا : – أن (لا) لنفي القسم .
فكأن الله تعالى يريد أن يقول : لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب ، فهو أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء . ويكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه ، وتفخيم شأنه ، أو : يكون الغرض إثبات أن المقسم عليه ، أظهر وأجل من أن يقسم عليه بمثل هذه الأشياء ، فإن إثباته أظهر وأجل وأقوى من أن يحاول إثباته بمثل هذا القسم ، وبه قال الفخر الرازي .
ب – أن (لا) هذه إذا وقعت خلال الكلام ، كقوله تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) ، فهي صلة تزاد لتوكيد القسم ، مثلها في قوله تعالى : (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله) لتأكيد وجوب العلم . وإذا وقعت ابتداء كما في سورة القيامة ، وسورة البلد ، فهي للنفي ، لأن الصلة لا تكون في أول الكلام . ووجهه : - أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به ، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية . والمراد : أنه لا يعظم بالقسم ، لأنه في نفسه عظيم ، أقسم به أولا ، ويترقى من هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه ، إذ المبالغة في تعظيم المقسم به ، تتضمن المبالغة في تعظيم المقسم عليه .. وبه قال الزمخشري .
ج – أن (لا) لنفي ما ينبئ عنه القسم من إعظام المقسم به وتفخيمه . فإن معنى لا أقسم بكذا : لا أعظمه بإقسامي حق إعظامه ، فإنه حقيق بأكثر من ذلك . وهذا الرأي يدور على أن ( لا ) للنفي ، وهذا الأسلوب يتضمن التعظيم . لكن : هل التعظيم منصب على المقسم به ، كما ذهب إليه أبو السعود ، على معنى : لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه ، فإنه حقيق بأكثر من ذلك . أم أن التعظيم منصب على المقسم عليه ، على معنى : لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات المطلوب ، فإنه أعظم من أن يقسم عليه بهذه الأشياء ، وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازي . أم هو منصب على المقسم به ، والمقسم عليه ، كما ذهب إلى ذلك الزمخشري ..؟ إذ المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة في تعظيم المقسم عليه .
ويرد هذا الرأي قوله تعالى في سورة الواقعة : - (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) . فهذا دليل على أن هنا قسما مثبتا ، وأن الكلام إثبات قسم ، لا نفي قسم ، وليس بعد بيان الله بيان . ويقاس على هذا بقية المواضع الثمانية ، إذ هي مثلها في اللفظ ، فتكون مثلها في الحكم .
الرأي الثاني :
وحاصله : - أن صيغة (لا أقسم) عبارة من عبارات القسم ، واختلفوا في توجيهها على أقوال :
أولا : - أن لا صلة ، أي : زائدة ، والمعنى : أقسم . قال بزيادتها : (ابن خالويه) ،
وأجاز ذلك أبو علي الفارسي في قوله (وإن جعلت تأكيدا لم يمتنع) . وقال بزيادتها كذلك الزمخشري ، في تفسيره للآية ( 75 ) من سورة الواقعة قال : [ فلا أقسم ، معناه : فأقسم، ولا مزيدة مؤكدة ، مثلها في قوله تعالى (لئلا يعلم أهل الكتاب) ] ، وقال في موضع آخر من الكشاف : [ إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم ، وأشعارهم قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر
وفائدتها توكيد القسم . ثم قال : ( واعترضوا عليه بانها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوله ، وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة ، متصل بعضه ببعض ، والاعتراض صحيح ، لأنها لم تقع مزيده إلا في وسط الكلام ، ولكن الجواب غير سديد ، ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته ]
وقيل : إنها زيدت توطئة وتمهيدا لنفي الجواب ، كما في قوله تعالى : (لا أقسم بيوم القيامة) فالمعنى : لا ، أقسم بيوم القيامة ، لا يتركون سدى.
وما قاله الزمخشري وغيره مردود بأمور منها :
1 – لا : ليست زائدة لتأكيد القسم ، لأن ما يراد توكيده ينبغي أن يكون متأخرا عما هو مؤكد له ، فليس من المقبول أن نجعل (لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم الوارد بعدها ، وقد منع (ثعلب) وغيره مجيء لا زائدة للتأكيد في إبتداء القول، واستقبحه بعض أهل اللغة ، وأنكروه ، لأن حكم التأكيد ينبغي أن يكون بعد المؤكد. وَ ( لأن زيادة الحرف يدل على إطراحه ، وكونه في أول الكلام يدل على قوة العناية به، لذا لم يجز أن نجعل -لا- في هذه الآية زيادة ) .
2 – إن قولهم إن -لا- زيدت توطئة وتمهيدا لنفي الجواب ، مردود بقوله تعالى : - ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) فإن جوابه هو قوله تعالى : (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون). وهو مثبت غير منفي . ومثله قوله تعالى : -(لا أقسم بهذا البلد) فإن جوابه مثبت، وهو قوله تعالى : - (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
ثانيا : - إن -لا- نافية لكلام سابق ثم إستأنف القسم :
وتحقيقه في قوله تعالى : ( لا أقسم بيوم القيامة ). أن – لا – نافية لكلام المشركين المنكرين للبعث ، أي : ليس الأمر كما زعموا ، ثم ابتدأ : أقسم بيوم القيامة .
قال القرطبي : ( وقال بعضهم : ( لا ) : رد لكلامهم حيث أنكروا البعث ، فقال : ليس الأمر كما زعمتم . قلت : وهذا قول الفراء ، قال الفراء : وكثير من النحويين يقولون ( لا ) صلة ، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة ، لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه ، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث ، والجنة ، والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم ، وذلك كقولهم : لا والله لا أفعل ، ف ( لا ) رد لكلام قد مضى ، وكقولك :لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروه ) . وهو رأي أبي علي الفارسي كذلك .
ونجيب على هذا القول ، بأنه ضعيف من وجوه :
1- إن هذا الكلام المحذوف الذي قدروه لا دليل عليه .
2- قولهم هذا يتنافى مع ما قرره النحويون من أن اسم -لا - وخبرها لا يجوز حذفهما إلا اذا كانا في جواب سؤال ، كما تقول : هل من رجل في الدار ، فيكون الجواب : لا ، أي : لا رجل في الدار .
3- قرر علماء المعاني في مثل هذا الموضع تعيين العطف بالواو حتى لا يحصل اللبس ، كما يقال : هل شفي فلان من مرضه ؟ فيقال : لا ، وشفاه الله . ولا يصح أن نقول : لا شفاه الله حتى لا يتوهم أنه دعاء عليه لا له . فلو كان الأمر كما يقولون ، لقال سبحانه : لا وأقسم بيوم القيامة .
4- قال تعالى :- ( لا أقسم بيوم القيامة . ولا أقسم بالنفس اللوامة ) فلو كان الأمر كما يقولون من أن ( لا ) جاءت لنفي كلام سابق ، لم يكن ثمة داع لإعادة حرف النفي مرة أخرى ، في قوله تعالى : - ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) .
ثالثا : - إن أصل (لا أقسم) : لأقسم : أشبعت فتحة اللام فظهرت الألف .
أجاز الفراء دخول لام الإبتداء على فعل القسم المضارع ، مستدلا بقراءة الحسن (لأقسم بيوم القيامة ) ، وتابعه ابن جني ، ولكنه قدر حذف مبتدأ بعدها ، قال : - ( أي لأنا أقسم بيوم القيامة ، وحذف المبتدأ للعلم به ) ، وخرجها الزمخشري على معنى (فلأنا أقسم) ، اللام لام ابتداء ، دخلت على جملة من مبتدأ وخبر ، وهي : أنا أقسم .
قال :- ( ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين :
أحدهما : - إن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال به ضعيف قبيح .
والثاني : - إن لأفعلن في جواب القسم للاستقبال . وفعل القسم يجب أن يكون للحال ).
وقال العكبري :- ( فيها وجهان :
أحدهما : - هي لام التوكيد دخلت على الفعل المضارع كقوله تعالى : (وإن ربك ليحكم بينهم ) ، وليست لام القسم .
والثاني : - هي لام القسم، ولم تصحبها النون اعتمادا على المعنى ، ولأن خبر الله صدق ، فجاز أن يأتي من غير توكيد ). ونقول: صحيح أن خبر الله صدق ، ولكن لم نجد آية واحدة ذكرت فيها لام القسم متصلة بالفعل المضارع ، دون أن تصحبها النون ، وإذا أخذنا بالقول أن خبر الله صدق – وهو كذلك - ، واعتمدنا عليه ، فلا داعي للقسم أصلا ، لكنه أقسم لحكمة يعلمها .
ومن خلال العرض الموجز السابق نصل إلى :
1- ليست اللام لام ابتداء ، أشبعت فتحتها فتولدت عنها ألف ، وليست زائدة كذلك .
2- إن القسم المسبوق بالنفي ، هو عبارة من عبارات القسم ، وليست ( لا ) أداة نفي نافية للقسم كما ادعى البعض ، إذ أنه مردود بتعيين المقسم به، كما في قوله تعالى : ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ) ، وقوله تعالى : (فلا أقسم بمواقع النجوم و إنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم ) فقد صرح بالقسم هنا ، وليس بعد بيان الله بيان . كما أن تأكيد الأمر عن طريق النفي مألوف في لغة العرب ، فإنك إذا قلت لصاحبك : (لاأوصيك بفلان) ، فإنما تريد تأكيد التوصية به ، وتبالغ في الاهتمام به . فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالأسلوب الصريح المباشر ، وكذلك نفي القسم ، استعمل في القسم من طريق آكد وأبلغ.
المبحث الرابع
أنواع القسم الظاهر في القرآن الكريم
المطلب الأول : - إقسامه تعالى بذاته وصفاته . وقد جاء في خمسة مواطن من القرآن : الموطن الأول : قوله تعالى في سياق الكلام على المنافقين : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما . )
الموطن الثاني : قوله تعالى : ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون . ) الموطن الثالث : قوله تعالى : ( فوربك لنحشرنهم والشياطين . )
الموطن الرابع : قوله تعالى :( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون .) الموطن الخامس : قوله تعالى : ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين . ) .
وأما قوله تعالى في سورة يونس :( ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ) ، وقوله تعالى في سورة التغابن : - ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ) فليس من باب إقسامه تعالى بذاته ، وإنما هو من باب تعليمه النبي – صلى الله عليه وسلم – كيفية الجواب ، فهو بالنهاية من أقسام النبي – صلى الله عليه وسلم - بربه ، على الطريقة التي دله الله عليها ، وأرشده إليها
المطلب الثاني : - وهو إقسامه تعالى بمخلوقاته ، وهو كثير في القرآن .
القسم بالمخلوقات في القرآن الكريم :
إذا إستقصينا القسم في القرآن وجدناه تعالى يقسم على أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها ، فتارة يقسم على أن الله واحد ، وتارة يقسم على البعث ، وتارة يقسم على حال الإنسان .
يقسم على أن الله واحد ، كقوله تعالى : (والصافات صفا . فالزاجرات زجرا . فالتاليات ذكرا . إن إلهكم لواحد).
وعلى أن القرآن حق ، كقوله تعالى : (فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم . إنه لقرآن كريم).
وعلى أن الرسول حق ، كقوله تعالى : - (يس .والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين ). وعلى الجزاء ، كقوله تعالى : ( والطور . وكتاب مسطور. في رق منشور. والبيت المعمور. والسقف المرفوع .والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع ).
وعلى حال الإنسان ، كقوله تعالى : (والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . وما خلق الذكر والأنثى . إن سعيكم لشتى).
وفي هذه الآيات وغيرها ترى المقسم به من مخلوقات الله تعالى ، فبإقسامه أولا ، وكونه يقسم بالمخلوقات ثانيا، أثار الشبهات التالية:
1 - الجري على عادة الحلف عندنا غير محمود شرعا ،فالذي يلجأ للقسم متهم في صدقه ، مفتقر إلى تأييد دعواه ، فلماذا أكثر الله من الأقسام في القرآن . ؟
2- نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الحلف بغير الله ، ثم إن الحلف بغير الله يقتضي تعظيمه ، والعظمة لله وحده ، واجتناب الحلف مطلوب شرعا ، فكيف يحلف الله بمخلوقاته ، كالتين والزيتون ؟
3 - القسم القرآني كما قلنا وقع على أمور مهمة جدا ، هي أصول الإيمان ، فما المقصود به ؟ إن كان المقصود تحقيق المحلوف عليه وإثباته في ذهن المؤمن ، فالمؤمن مصدق لا يحتاج إلى يمين ، وإن كان المقصود به تحقيقه وإثباته في ذهن الكافر ، فالكافر لا يصدق باليمين ، ولا يقنعه إلا الدليل الساطع ، والبرهان القاطع . تلك الشبهات تخطر كلها أو بعضها في بال كثير من الناس .
فإذا سأل أحدهم : كيف يقسم الله بمخلوقاته ؟ كان الجواب : إن الله أراد تشريف تلك المخلوقات ، والتنويه بها وإعلاء شأنها ، والرد على من ذمها ، وهذا ظاهر الصحة في قوله تعالى : (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) ، إذا قلنا إنه خطاب من الله لنبيه –صلى الله عليه وسلم ، فقد كان النبي واحدا من العرب ، ظهر فيهم وعليهم ، فلقي منهم إيذاءً واستهزاء ، ولقي منه عنادا وإصراراً ، وعتواً واستكبارا ، فمن المعقول أن يشرفه الله بأن يقسم بحياته ، أما أن يشرف الخيل العاديات ضبحا بالقسم ، فبعيد ، وأبعد منه أن يشرف بالقسم كلا من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وقد بلغت عندهم من الشرف غايتة ، حتى عبدها بعضهم ، وفي تشريفه إياها بالقسم بها ، إغراء لهم بالتمادي في عبادتها ، وهو يقول – سبحانه (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) .
أساس تلك الشبهات : لعل مما سبب في تسرب هذه الشبهات إلى الأذهان ، ظنها أن الغرض من القسم تقديس المقسم به ، أو تشريفه وتعظيمه ، وساعد على ذلك ، أن معظم ما أقسم الله به من مخلوقاته شريف في ذاته ، كالقرآن ، والشمس ، والقمر ، ولكن القسم في اللغة قد يكون بالخسيس كذلك ، ليؤدي غرضاً مقصوداً ، وسنرى في الأسطر القادمة ، أن في القسم بالمخلوقات ، نوع يباين القسم التقديسي ، ويباين القسم التشريفي ، وجيئ به ليؤدي غرضاً جليلا لا يؤديه غيره .
ولما كان القرآن قد نزل بلغة العرب ، وعلى طريقتهم ، وأسلوبهم ، كان علينا أن نعرف الغرض الأصلي من القسم عندهم ، وأن نتبين خصائصه وأهدافه ، لتتداعى تلك الشبهات .
المبحث الخامس
أغراض القسم القرآني ، وأهدافه :
يقول ابن يعيش : (الغرض من القسم : توكيد ما يقسم عليه من نفي وإثبات) وقال ابن القيم : (والمقسم عليه : يراد بالقسم توكيده ، وتحقيقه) ،
والقرآن نزل بلغة العرب ، ومن عاداتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرا ، وقلما نجد القسم مستعملا في اللغات الأخرى وآدابها.
وكثيرا ما يحتاج المتكلم إلى تأكيد خبر يسوقه ، أو توثيق وعد يصدر منه، وبخاصة في الأمور المهمة كالمحالفات ، والمعاهدات ، وكان للتأكيد عند العرب صيغ مختلفة ، وكان القسم أقواها تأكيدا وتحقيقا ، لأنه يفيد الجزم بصحته ، والقطع بصدقه ، وقد بلغ من شأن القسم عندهم ، أنهم كانوا يحترزون كل الإحتراز من الأيمان الكاذبة ، ويعتقدون أنها شؤم على صاحبها ، تخرب الديار ، وتدعها بلاقع ، لما فيها من الغدر والخيانة ، ومن أجل هذا كانت اليمين عندهم قاطعة في إثبات الحقوق .
فالغرض الأصلي من القسم تأكيد المقسم عليه ، أما تقديس المقسم به ، أو تشريفه ، فغير مقصود أصالة ، وإن أتى تبعا
والقسم أنواع :
1- نوع يلزم فيه التقديس .
2- ونوع فيه تشريف وإعزاز للمقسم به .
3 - ونوع ثالث هو المقصود بالبيان ، يكون القسم فيه بالدليل ، أو ما في حكمه، وهو القسم الاستدلالي .
القسم التقديسي : - وهو إقسام الإنسان بمعبوده ، فهو عند المسلمين : أن يقسم بالله أو بصفة من صفاته ، فيقول أحدهم : أقسم بالله ، أو بعزته ، أو بجلاله لأفعلن كذا ، وهو أقوى أنواع القسم تأكيدا للمقسم عليه ، وهو القسم الشرعي ، الذي يأثم الإنسان على نقضه بعد تأكيده .
قالت العلماء : أقسم الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم ، في قوله ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم
يعمهون ) لتعرف الناس عظمته عند الله تعالى ، ومكانته لديه ) هذا إذا كان الله عز وجل هو المقسم ، أما العباد إذا أقسموا ، فالاسلام حرم عليهم القسم بغير الله ، أو صفة من صفاته ، وقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يحلف بأبيه ، فقال : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ). وللفقهاء في ذلك آراء وأقوال ليس هذا موضعها .
القسم التشريفي : - يحس الإنسان في نفسه عزة ورفعة ، فيحمله هذا إذا أراد تأكيد كلام أن يقول : ورأسي ، أو وحياتي، أو لعمري ، لأفعلن كذا ، وقد يريد إعزاز المخاطب وإكرامه فيقول : ورأسك ، أو لعمرك ، فكل هذه الأقسام تفيد التأكيد ، ومع أنها تشعر بتعظيم المقسم به ، إلا إلى أنها لا تصل إلى حد التقديس .
القسم الإستدلالي :
1- روي أن (هجرسا) حين هم بقتل خاله (جساساً) قاتل أبيه ، قال : - ( وفرسي وأذنيه ، ورمحي ونصليه ، وسيفي وغراريه ، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه ) ، ثم طعنه فقضى عليه . لم يرد (هجرس) تقديس فرسه ، وأذنيه ورمحه ، ونصليه وسيفه ، وغراريه ، ولا تشريفها ، وإن كانت عظيمة عنده ، عزيزة عليه ، ولكنه أراد أن يقول :
لا عذر لي في أن أترك قاتل أبي حيا أنظر إليه ، وأنا تام الأهبة ، قادر على الضرب والطعن والثأر ، أو أراد أن يقول : أنا تام العدة ، قادر على الثأر ، ومن كان كذلك ، لا يسوغ له أن يترك قاتل أبيه حيا وهو ينظر إليه ، فأنا لا يسوغ لي أن أترك قاتل أبي حيا ، وأنا أنظر إليه ، فوضع الدليل في صورة القسم التي تفيد تأكيد المحلوف عليه ، وتلفت السامع إليه ، دون أن تعطي الخصم فرصة الإنكار ، أو الفرار .
2 – قال عروة بن مرة الهذلي :
وقال أبو أمامة يالبكر فقلت ومرخة دعوى كبير .
يستهزئ الشاعر بأبي أمامة على استغاثته بقبيلة بكر ، فقال : هذه دعوى كبيرة ، أي : ما أصغر من يدعوهم لنصره ، فأقسم بشجرة صغيرة لا تؤوي من يلوذ بها ، وضربها مثلا لأضعف الأشياء ملاذا ، وإنما قال :(كبير) ، تهكما ، فهو يريد : فقلت ومرخة دعوى صغير ، على حد قولك للأسود : يا أبيض ، وللجبان : يا أسد . وكقوله تعالى : (ذق إنك أنت العزيز الكريم) أي : الذليل اللئيم .
ويتضح هذا المعنى مما قاله أبو جندب الهذلي :
وكنت إذا جار دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري .
فلا تحسباجاري لدى ظل مرخة ولا تحسبنه فقع قاع بقرقر .
والمرخة : شجرة ضئيلة الظل ، لا تقي من استظل بها حر الشمس ، ولذا تقول العرب لمن لجأ إلى ضعيف لا يحميه : لقد استظل بمرخة .
فالتقديس والتشريف لا يلازمان المقسم به ، بل قد يكون حقيرا ، أو بغيضا ثقيلا ، وقد يكون القسم للتذكير بالمقسم به ، والتنبيه إليه ، وقد يكون للإستدلال بالمقسم به على المقسم عليه ، أو لتشبيه المقسم عليه بالمقسم به .
وإلى هذا أشار الفخر الرازي - عند تفسير قوله تعالى : (والذاريات ذروا . فالحاملات وقراً .فالجاريات يسرا . فالمقسمات أمرا. إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع .) إلى أن الأيمان الواقعة في القرآن ، وإن وردت في صورة القسم ، فالمقصود بها الاستدلال بالمقسم به على المقسم عليه ، وهو هنا صدق الوعد ، والبعث ، والجزاء ، كأنه قيل : من قدر على هذه الأمور العجيبة المقسم بها ، يقدر على إعادة من أنشأه أولا .
وأكثر أقسام القرآن إستدلالية ، والأدلة على ذلك كثيرة ، منها :
1- إن حملها على الإستدلال هو اللائق بجلال الله وبجلال كتابه ، لأنه ليس من اللائق ولا من الصواب ، أن يفهم أي قسم من أقسام الله على أنه تقديس للمقسم به ، لأن هذا التقديس يجوز على البشر ، ولا يصح مع الخالق ، إلا في حالة واحدة وهي: القسم بالله ، فإنه تقديس .
2- إن القرآن يتصرف في أساليبه ، فتارة يذكر الأمور الدالة على وجود الله ، ووحدانيته وقدرته ، في أسلوب القسم بها ، وتارة يسوقها مساق العظة والتوجية ، وهي في الحالتين بينات على ما سيقت إليه ، لمن يتفكر فيها ، ويتدبر مراميها . قال تعالى : - (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، وفي آيات أخرى استدلال بالأرض ، والسماء ، والجبال ، والبحار، وغيرها ، على طريق القسم بها ، ولا شك أن توجيه القسم بها على أنه استدلالي للاحتجاج والاستشهاد ، يناظر ذكرها للعظة ، والتوجيه ، والاعتبار
3- ليس من المعقول أن يتصور إنسان مؤمن أن الله الخالق يقدس مخلوقاته التي أقسم الله بها ، وهي كما ذكر القرآن الكريم مرارا ، مسخرة طائعة لله ، لا تملك لنفسها ولا لغيرها ، نفعا ولا ضرا .
4- على أن القرآن الكريم قد يذكر الآيات الدالة ، ثم يقسم بالله سبحانه ، كأنه قد مهد بذكرها ، لبيان المراد من الاستدلال بها ، قال تعالى : (وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وفي السماء رزقكم وما توعدون . فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون).
ومعنى هذا : أن الآيات المنبثه في الأرض وما عليها ، وفي النفوس وأحوالها وأسرارها ، وفي السماء ونجومها وسحبها ، كلها أدلة على وجود الله وقدرته ، ودلائل على صدق النبوة والبعث ، والقرآن ، ولهذا عقب بالقسم بذاته العلية ، وهذا القسم بالذات العلية مراد به التقديس ، لأنه بالله المعبود بحق ، ولأنه متضمن الاستدلال بما تدل عليه السماء والأرض من بينات على وجود الله تعالى ، وعلى صدق محمد –عليه الصلاة والسلام .
5- ثم إذا رجعنا إلى الأقسام القرآنية وأجوبتها ، وجدنا ملاءمة بينهما ، وأدركنا أن المناسبة قوية بين القسم والمقسم به ، وهذا يعزز أنها أقسام استدلالية ، من ذلك مثلا :
قول الله تعالى : ( والضحى .والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى ).
أقسم - عز وجل –بآيتين عظيمتين من آياته وهما : الضحى ، والليل إذا سجى ، يقول السيوطي مجليا التلاؤم بين هذا القسم وجوابه : - ( وتأمل مطابقة هذا القسم ، وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه ، حتى قال أعداؤه : ودع محمدا ربه ، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل ، على ضوء الوحي ونوره ، بعد ظلمة احتباسه واحتجابه )
ويمكننا أن نجمل أغراض القسم في القرآن الكريم فيما يلي :
1- تأكيد الخبر وتقريره ، وتلك عادة العرب الذين كانوا يقطعون كلامهم بالقسم ، لأن (القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده). وهذا الغرض يظهر لنا إذا علمنا أن المقسم عليه كثيرا ما يكون من الأمور الخفية الغائبة ، فيقسم عليها لإثباتها ، مثل قوله تعالى : (لا أقسم بيوم القيامة . ولا أقسم بالنفس اللوامة . أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه . بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) فالقسم في كلام الله ( يزيل الشكوك ، ويحبط الشبهات ، ويقيم الحجة ، ويؤكد الأخبار، ويقرر الحكم في أكمل صورة ) .
2- لفت الأنظار إلى الكون وما يحويه من أسرار عجيبة ، وما فيه من نظام بديع محكم ، إذ كل يجري إلى أجل مسمى ، وكل في فلك يسبحون ، فجاء القسم في القرآن الكريم على هذه الأمور لأجل ذلك .
3- إثبات صدق الرسول –صلى الله عليه وسلم- إذ العرب كانت تعتقد أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع ، وأنها تضر صاحبها . وقد كان إكثار النبي –صلى الله عليه وسلم- من الحلف بأمر الله تعالى ، مثل قوله تعالى : (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ).وقوله تعالى (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ). ومع قسمه –صلى الله عليه وسلم- لم يصب بسوء ما،بل ارتفع شأنه وعلا ذكره –صلى الله عليه وسلم- ، فكان دليلا على صدقه .
4- إبراز المعقول في صورة المحسوس ، وذلك أن الأمر المعقول إذا صور في شيء حسي ، فإن العقل يستوعبه ، أكثر ما لو كان مجردا عن الحس ، ومثله تشبيه الوحي بالضحى في رابعة النهار ، وتشبيه الباطل بالليل ، وانتصار الحق بالنهار ، إشارة إلى أن الليل البهيم ، لابد وأن يعقبه صبح مشرق بهيج ، يبدد ظلامه وظلماته ، وكذلك ظلام الشرك والجهل ، لابد وأن يعقبه نور الحق واليقين .
5- تصحيح العقائد الباطلة ، فالقسم بالنجم إذا هوى ، وبالكواكب ، وبالشمس ، والقمر ، فيه رد على من اعتقد أنها آلهة ، وأن لها تصرفا في العالم السفلي .
6- لفت الأنظار إلى أحدات بارزة ، كان لها أكبر الأثر في تاريخ البشر ، وذلك الغرض يظهر في القسم بالأمكنة مثل (الطور) ، فالقسم به فيه إشارة إلى ماكان عند ذلك الجبل من الآيات التي ظهرت لموسى
–عليه السلام- ، والقسم بالبلد الأمين ( وهذا البلد الأمين) فيه إشارة إلى حادثة ظهور النور المحمدي من هذا البلد الأمين ، ذلك النور الذي بدد ظلمات الجهل والضلال ، ثم شع في آفاق الدنيا وملأ جنباتها ، إلى آخر ما هنالك من أهداف وأغراض .
المبحث السادس
الأمور المقسم عليها في القرآن الكريم :
يمكن إجمال الأمور المقسم عليها في القرآن الكريم في أصول أربعة ، هي أسس الإيمان ، وهي :
الأول :- تثبيت أساس التوحيد .
الثاني :- تقرير أمر النبوة ، والإشادة بصدق الكتاب الحكيم .
الثالث:- إثبات الحياة الأخرى ، وما يتصل بها من حساب ، فثواب أو عقاب .
الرابع :- توضيح المهم من أحوال الإنسان وتصرفاته في هذه الحياة .
أما الأصل الأول وهو تثبيت أساس التوحيد : فيدخل تحت هذا الأصل قوله تعالى : ( والصافات صفا . فالزاجرات زجرا . فالتاليات ذكرا . إن إلهكم لواحد ).
قال الشيخ طه الراوي : ( أقسم تعالى بنفوس الغزاة التي تقاتل في سبيل الحق متحدة مع بعضها كالبنيان المرصوص ، وبهذا الإتحاد والتراص تزجر المبطلين ، وتهديهم إلى سبيل الرشد ، أقسم على أنه لا معبود بحق إلا إله واحد لا شريك له ، فهو قسم بالمتحدين على ثبوت التوحيد ، وفيه إشارة إلى أنه كما أن القوة والنجاح وليدة الإتحاد ، فكذلك وحدانية الصانع ، وانعدام الشريك هي السبب في إبداع هذا الكون ، وإحكام نظامه ، إذ لو كان مع الله آلهة أخرى لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، وبذلك يختل نظام الكون ، وتندثر معالمه ).
وأكثر المفسرين على أن المراد بالصافات ، والزاجرات ، والتاليات ، جماعة من الملائكة ، موصوفة بهذه الصفات ، وهو الأظهر والأرجح ، إذ تؤيده الآيات القرآنية ، فقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافون في قوله تعالى : ( وإنا لنحن الصافون ، وإنا لنحن المسبحون ) في نفس السورة ، كما جاء وصفهم بذلك فيما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فضلنا على الناس بثلاث ، جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة .. الحديث ) ، ولأن هذا القول هو المأثور عن جماعة من الصحابة والتابعين .
فيكون المعنى : وحق الملائكة الذين يصفون أنفسهم صفا لعبادة الله تعالى وطاعته ، والذين يزجرون غيرهم عن ارتكاب المعاصي ، أو يزجرون السحاب إلى الجهات التي كلفهم الله بدفعه إليها ، والذين يتلون آيات الله المنزلة على أنبيائه، تقربا إليه ، وطاعة له .. إن ربكم أيها الناس لواحد لا شريك له في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، ولا في خلقه ..
ومما جاء في الأصل الثاني : وهو تقرير أمر النبوة ، والإشادة بصدق الكتاب الحكيم :
قوله تعالى : - (يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين ) .
أقسم جل شأنه بالقرآن الحكيم ، المعجز في نظمه ، وبديع معانيه ، المتقن في تشريعه وأحكامه ، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة ، على أن محمدا –صلى الله عليه وسلم- رسول من المرسلين ،والتأكيد بالقسم لشدة إنكارهم لرسالته . ومن المعلوم أن القرآن معجزة من معجزات رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وتحدى العرب أن يأتوا بحديث مثله ، أو بعشر سور من مثله مفتريات ، أو بسورة من مثله ، فلم يستطيعوا ، فإقسام الله بالقرآن على صحة الرسالة ، إقسام بالمعجزة التي تؤيد تلك الرسالة ، والدليل الذي يثبتها ، كأنه قال : إنك من المرسلين بدليل القرآن الحكيم ، فأخرج الدليل مخرج اليمين ، لأن المتكلم - كما قا ل الفخر الرازي - : ( إذا شرع في أول كلامه يحلف ، يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم ، فيصغي إليه ) تمام الإصغاء ، ويقبل على سماعه كل الإقبال ، ثم إن في القسم بالمعجزة تذكيرا بها ، وتبكيتا للمعاند على الإغضاء عنها ، ولا أدل على هذا التوجيه من أن الله جل شأنه - عودنا في كتابه العزيز ، تصريف الآيات والبراهين ، التي يسوقها دلائل على أصول الإيمان ، فتارة يذكرها على سبيل الآية والعبرة ، وتارة يذكرها كأنها خبر من الأخبار ، وأحيانا يذكرها بأسلوب القسم .
ومنه قوله تعالى : - ( والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف . ) إذ نجد فيه تلاؤم جواب القسم ( إنكم لفي قول مختلف ) مع هذا الوصف الذي وصفت به السماء ( ذات الحبك ) ، فالحبك : هي الطرائق ، ولما كان هذا الوصف مشعرا بالتشعب والإختلاف ..
جاء الجواب [ ( إنكم لفي قول مختلف ) قولهم في الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، ساحر ، وشاعر ، ومجنون وفي القرآن ، شعر وسحر ، وأساطير الأولين ، وعن الضحاك : قول الكفرة : لا يكون مستويا ، إنما هو متناقض مختلف ] وقال البيضاوي : ( ولعل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها ،
بالطرائق للسموات في تباعدها ، واختلاف غاياتها ) .
ومنه كذلك قوله تعالى : (والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى .علمه شديد القوى).
قال المفسرون : أراد بالنجم : جنس النجوم أو أراد به الثريا على ما اشتهر عند العرب . وهوى النجم : غرب أو طلع . يقال : هوى هويا –بفتح الهاء – إذا سقط وغرب ، وهوى هويا – بضم الهاء- إذا على وصعد. وما ضل : أي ما عدل عن الطريق المستقيم ، ووما غوى : أي ما اعتقد باطلا ، والغي : خلاف الرشد ، وهو الجهل مع اعتقاد فاسد.
أقسم – سبحانه – بالكوكب الذي ينبعث منه النور ، وتكون به الهداية في ظلمات البر ، والبحر ، على كون محمد – صلى الله عليه وسلم- سالكا جادة الرشد والهداية ، ونفى عنه ما كانت قريش تنسبه إليه من الضلال في ترك ما كانت عليه آباؤهم ، وأئمة الكفر منهم ، وأن ما جاء به من الكتاب ليس من عنده ، وإنما هو وحي إلهي . وكانت العرب تضرب الأمثال بهداية النجم والإهتداء به ، ومما يؤثر عنهم في هذا قولهم : فلان أهدى من النجم ، ويقولون : لا يضل فلان حتى يضل النجم . وإلى هذا أشار القرآن نفسه فقال: ( وبالنجم هم يهتدون ).
والمناسبة بين المقسم به والمقسم عليه ظاهرة جلية ، فا لمقسم به : هو النجم الذي لا يضل السبيل ، وبه يهتدي السائرون ، والمقسم عليه : كون محمد – صلى الله عليه وسلم – على محجة الهداية ، وكون ما جاء به ليس إلا وحيا تلقاه من عالم الغيب والشهادة .
وإنما قال : ما ضل صاحبكم ، ولم يقل : ما ضل محمد ، تأكيدا لإقامة الحجة عليهم لأنهم مصاحبون له طوال أربعين سنة قبل البعثة ، وهم أعلم الخلق به ، وبحاله، وبأقواله ، وبأعماله ، وأنهم في تلك المدة الطويلة لم يشاهدوا منه إلا الصدق ، والأمانة ، والعقل الراجح ، والقول السديد ، فقولهم بعد بعثته صلى الله عليه وسلم – إنه ساحر ، أو مجنون ، هو نوع من كذبهم البين ، وجهلهم المطبق . ومما جاء في الأصل الثالث :
في إثبات الحياة الأخرى ، وما يتصل بها من حساب ، فثواب أو عقاب ، قوله تعالى : (والذاريات ذروا . فالحاملات وقرا . فالجاريات يسرا . فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع .) أقسم الله –جل شأنه- بأمور أربعة على أن ما توعد به من البعث، وأمر الساعة حق ، وعلى أن الدين وهو الجزاء ، من ثواب أوعقاب ، واقع لا محالة ، فهو قسم على البعث ، وعلى الجزاء .
قال الفخر الرازي : -( الأمور الأربعة -التي أقسم الله بها هنا – جاز أن تكون أمورا متباينة ، وجاز أن تكون أمرا له اعتبارات أربع ، الأول : أن الذاريات : هي الرياح ، والحاملات : هي السحاب ، والجاريات : هي السفن ، والمقسمات : هي الملائكة الذين يقسمون الأرزاق . والثاني : وهو الأقرب : أن هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات : هي الرياح التي تنشئ السحاب ، والحاملات : هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه .
والجاريات : هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها . والمقسمات : هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار ..). وعلى هذا تكون الفاء لبيان ترتيب هذه الصفات في الوجود ، فإن الذاريات تثير البخار ، فينعقد سحابا ، فتحمله الرياح ، فتفرقه على الأقطار .
والمقسم عليه : صدق الموعود من البعث والنشور ، ووقوع الحساب، فالثواب أو العقاب . فالمناسبة بين المقسم به ، والمقسم عليه واضحة ، فالقادر على تأليف السحاب من ذرات البخار ، بواسطة الرياح الذارية ، ثم إعادته بعد ذلك إلى سيرته الأولى ، قادر على إعادة الإنسان ، وتأليف أجزائه المتفرقة .
وقد أقسم هنا بالرياح والسحاب على البعث والجزاء ، وذكرهما في سورة الروم على سبيل الآية والعبرة ، فقال تعالى : (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ، ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون ، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) .
فالقادر على إرسال الرياح، وإثارة السحب، وإحياء الأرض بعد موتها ، قادر على إحياء الموتى .
ومما جاء في الأصل الرابع ، وهو بيان أحوال الإنسان وتصرفاته المختلفة :
قوله تعالى : - (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ) .
والمقسم عليه في هذه السورة يتكون من أمور ثلاثة :
أ: - دليل من أدلة القدرة الإلهية على البعث ، والجزاء ، وهو قوله تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ).
ب: - وعيد صارم شديد ، وهو قوله تعالى : (ثم رددناه أسفل سافلين ) وأسفل سافلين : النار على الصحيح ، أو هو سجين موضع الفجار، كما أن عليين موضع الأبرار .
ورددناه : معناه ونرده ، فعبر بالماضي موضع المضارع المستقبل ، إيذانا بأن الرد أسفل سافلين واقع لا محالة ، وتشبيها للمستقبل المحقق وقوعه ، بالماضي الواقع فعلا .
ج : وعد حسن ، وهو قوله تعالى : (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) أي: مقطوع . والقسم في هذه السورة أكثر انصبابا على الأمرين الأخيرين ، أي : على الوعد والوعيد
قال المفسرون: أراد بالتين والزيتون : المكان الذي كثر شجرها فيه ، على سبيل التجوز ، عبر بالحال وهو التين والزيتون ، وأراد المحل ، وهو الأرض المقدسة ، التي ظهر فيها عيسى –عليه السلام- .وقالوا : إن هذا المعنى هو الذي يتناسب مع طور سينين ، ومع البلد الأمين ، والتعبير بالحال عن المحل مألوف في الكلام العربي ، قال تعالى : (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) ، أي : ففي جنته التي تحل فيها الرحمة .
وعلى هذا يكون الله قد أقسم على خلق الإنسان وتعذيبه وإثابته بأمكنة ثلاثة ، هي مظاهر أنبيائه ورسله أصحاب الشرائع العظام المعروفة ، أقسم بأرض بيت المقدس مظهر رسوله وكلمته وروحه –عيسى بن مريم- وفيها نزل الإنجيل عليه ، ثم أقسم بالجبل الذي كلم الله موسى عليه تكليما ، وناداه من جانب الطور الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة التي فيه ، أن اذهب إلى فرعون إنه طغى ، ثم أقسم بالبلد الأمين مظهر خاتم الأنبياء والمرسلين ، فتدرج من التين والزيتون ، إلى طور سينين ، إلى بلد الله الأمين ، فختم بموطن الرسالة الخاتمة ، أشرف الرسالات . أقسم بهذه الأمكنة الثلاثة التي هي مهبط الوحي والرسالة ، على أن ما سيلاقيه من ثواب أو عقاب ، إنما هو نتيجة إيمانه ، أو كفره وطغيانه ، بعد أن أرسل رسلا مبشرين ومنذرين .
وكأنه جل شأنه يقول : ( هأنذا قد أرسلت لكم الرسل ، فأناروا لكم الطريق ، وميزوا لكم الرشد من الغي ، فإن عصيتم فلكم أسفل سافلين ، وإن أطعتم فلكم أجر غير ممنون ) ويمكننا القول : إن الله تعالى أقسم بالشمس ، والقمر ، والنجوم ، والليل ، والنهار ، والبحر ، والعصر ، والسحاب ، والنفس ، والملائكة ، وغيرها من المخلوقات ، وكلها آيات دالة على قدرته ، ووحدانيته ، وكماله ، وقد ذكرها في مواضع مختلفة من كتابه بغير أسلوب القسم .
المبحث السابع
بلاغة القسم القرآني :
بعد هذا الإيجاز يجدر بنا أن نتعرف على ما في أسلوب القسم من وجوه البلاغة ، لتكتمل النظرة ، وتتم الفكرة .
1- يمتاز أسلوب القسم بإيجازه ، ولهذا يهجم على السامع ، فيمتلك مشاعره ، ولعل العرب أكثروا منه ، وأفتتنوا فيه لوجازته ، وهم إلى الإيجاز أميل في شعرهم ونثرهم ، ومن هنا راجت الأمثال بينهم وشاعت ، وذاعت الحكم والتوقيعات فيما بعد العصر الجاهلي ، وتسابقوا إلى تجديدها ، والاحتفاظ بها .
2- القسم ضرب من الأسلوب الإنشائي ، لا مناص للخصم من الإقرار به ، ولا وجه له في إنكاره ، فإن شاء أن ينكر ، انصب إنكاره على جواب القسم ، لا على القسم نفسه ، لأن الجواب خبر لا إنشاء.
وقد يجمع القرآن الكريم بين القسم والوصف ، كالقسم بالقرآن المجيد واليوم الموعود ، والصافات صفا ، ففي هذا وأشباهه قسم ، ووصف للمقسم به ، ليكون الاستدلال أعظم في النفس وأوقع .
3- قد يحذف جواب القسم في القرآن ، وهو المقسم عليه ، فينتقل بعد القسم إلى كلام آخر ، لكنه مرتبط بالجواب المحذوف . والسر في هذا أنه يسد على المخاطب المنكر طريق الفرار ، فلا ينتقل من القسم وهو إنشاء ، إلى الجواب وهو خبر ، لئلا يجاري المنكر في الجواب ، ثم ليكون القسم كالتمهيد والتنبيه ، فيسترعي سمع المخاطب ، فيرهف أذنيه ليستمع ما بعد القسم ، فإذا به يسمع ما يؤيد الاستدلال المقصود من القسم نفسه ، كقوله تعالى : (ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) ، فأقسم بحرف من حروف الهجاء التي يتكون منها القرآن ، على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز ، وأتبعه بالقسم بالقرآن ، وحذف الجواب لدلالة التحدي عليه ، كأنه قال: والقرآن ذي الذكر إنه كلام معجز ، ولكن الكفار استكبروا ولم يذعنوا إليه ، فعارضوا الرسول وكذبوه .أو كأنه قال : أقسم بالقرآن ذي الشرف العظيم ، إنك لصادق فيما تبلغ عن ربك ، ولكن الكفار استكبروا ولم يذعنوا للحق ، وأصروا على العناد . أو أقسم بالقرآن أن الأمر ليس كما يزعم هؤلاء الكفار ، بل هم في استكبار ومخالفة ، وعداوة لمحمد .
4- إن من مزايا القسم أنه يسهل الجمع بين عدة أدلة في جملة واحدة ، أو في جمل متلاحقة ، كما في سور: التين ، والبلد ، والطور ، والشمس ، والليل ، والفجر ، مع الإيجاز، ولو أن الأدلة فصلت وبسط فيها القول ، لفقد الكلام روعته وتأثيره 5- يشرك القسم الإستدلالي السامع في استنباط الدليل ، ويخفف من عناده وخصامه ، فيشعر أنه تعرف وتأمل، ولهذا كانت الأساليب الإنشائية كلها أكثر اجتذابا من الأساليب الخبرية . وهذا هو السبب في أن الحاذق اللبق ينوع أساليبه ، ويراوح بين الإنشاء والخبر ، لينشط المخاطب ، ويشركه في الفهم ، والبحث ، والاستنباط ، حتى ليتوهم أنه هو الذي اهتدى إلى الحق بنفسه .
6- ومن ضروب بلاغة القسم أنه تقديم لتوثيق الصدق قبل ذكر الدعوى، لأنه يقرع أذني المخاطب ، فيصغي ويترقب ما بعده ، ثم تجيء الدعوى فيسهل قياده لها ، ولكنه إذا فوجئ بالدعوى التي ينكرها ، انصرف عنها ونفر منها . وشتان ما بين قولك : (ما أنت بنعمة ربك بمجنون . أقسم بالقلم وما يسطرون) ، وقوله تعالى : (ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) فسبحان من نفى عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - التهمة قبل حكايتها .
الخاتمة
1-لجأ القرآن الكريم إلى القسم جريا على عادة العرب في توكيد الأخبار ، لتستقر في النفس ، ويتزعزع فيها ما يخالفها ، وإذا كان القسم لا ينجح احيانا في حمل المخاطب على التصديق ، فإنه كثيرا ما يوهن في النفس الفكرة المخالفة ، ويدفع إلى الشك فيها ، ويبعث المرء على التفكير الجاد والقوي فيما ورد القسم من أجله.
2 - أقسم الله بجميع مخلوقاته ، شاهدها ومشهودها، ما نبصره وما لا نبصره . على وجوده ووحدانيته ، وقدرته ، ووقوع البعث ، وصدق النبي –صلى الله عليه وسلم- ، ولينبهنا على ما فيها من روعة ، تدفع إلى التفكير في خالقها .
3- إن القسم بالله تعالى مقصود به التقديس ، لأنه الخالق الذي يستوجب التقديس والعبادة ، وما عدا ذلك فالتقديس والتشريف غير لازمين للقسم ، وإن كان المقسم به عظيما في ذاته ، وعظيما عند خالقه .
4- صوغ الدليل في صورة القسم، فيه توكيد للمقسم عليه ، وتنبيه للسامع إليه ، وتمهيد له بما يقرره في الذهن .
5 - إن القرآن قد يستعمل أسلوب القسم بغير مقسم به كما جرى في العرف العربي ، نحو قوله تعالى : (أخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) ، ونحو قوله تعالى : (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire