فنّ التعامل في الحياة الزوجية.
وإنّ المتأملَ في حياةِ النبي صلى الله عليه وسلم الزوجية يجد أنه القمّة في العطف والحنان والذَّوق الرفيع، والمرح والأدب.
إنّ النبيّ َصلى الله عليه وسلم في قوله وعمله وسلوكه: وَضعَ أُسُساً ونَماذجَ لِلذَّوْقِ والأدبِ والأخلاقِ في التّعاملِ مع الناسِ، على مُستوياتِهم ومَراتبِهم شتّى، كالمرأةِ والطّفلِ، وصاحبِ المقامِ الرَّفيعِ في الدِّين والدّنيا، والإنسانِ البسيطِ، ولو أَردنا جَمْعَ كلِّ المواقفِ الذَّوقيةِ والأَدبيةِ والأخلاقيةِ؛ التي تَعامَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها مع هؤلاءِ لَبَلَغَتْ مئاتِ الصفحاتِ، وقد اكتفيتُ بذكرِ نماذج منها في كتابي: (فنّ تعامل النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الزوجية)، طُبع مرتين: الأولى في دار البشائر الإسلامية في بيروت، والثانية في دبي، توزيع مركز الناقد الثقافي في دمشق.
ولا يخفى على المنصف المتأمل أن صُورة الإسلامِ المشرقةَ قد غابت عن (طائفةٍ) مِن الناسِ (مُسلمين وغير مُسلمين) وأَورثَ غيابُ هذهِ الحقيقةِ غَبَشاً في الرُّؤيةِ، أو تَشويهاً في الفِكْرِ، أو طَعْناً في الحقِّ، وسعيتُ في كتابي المذكور إلى فَتْحِ قُفْلِ القَلْبِ والعَقَلِ، بنورِ المعرفةِ، لِتَتَّضِحَ الرُّؤيةُ، ويَستقيمَ الفِكْرُ (في هذا الموضوع).
© فوائد الزواج ©
للزواج فوائد منها:
الفائدة الأولى: فيزيولجية (غريزية)، وهي المتعةُ الجنسيةُ، فالإنسانُ مخلوقٌ وفيه غريزةُ الشهوة، ويجبُ إشباعُها بالطريقةِ المشروعة. مِثلُها مِثلُ غريزةِ الجوعِ التي يجبُ إشباعها أيضاً بالطريقةِ المشروعةِ. وهذه الغريزةُ الشهوانيةُ مخلوقةٌ في جميع البَشَر، صالحين وغير صالحين، حتى أَفضل الناس وأتقاهم، كالأنبياءِ والرُّسل، كسيدنا آدم عليه السلام، وخاتمِ الأنبياءِ والرُّسُل سيدنا محمدٍ رسولِ الله،.
الفائدة الثانية: نفسيةٌ عاطفيةٌ. وهي السَّكَنُ الروحيُّ، والاستقرارُ النفسيُّ، والطمأنينةُ والرّاحةُ، والمودّةُ والرّحمةُ. قال الله تعالى: ]وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[.
الفائدة الثالثةُ: دِينيةٌ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ. قالوا: أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أَجْرٌ؟! قال: أرأيتم إنْ وَضَعها في حرامٍ أكان عليه وِزْرٌ، فكذلك إذا وَضَعها في حلالٍ كان له فيها أَجْرٌ.
الفائدة الرابعةُ: تربويةٌ. وهي العَفافُ والتّحصنُ، وتهذيب النفس وحفظُها مِن الشذوذِ والانشغالِ الفكريِّ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثـةٌ حَقٌّ على الله عَونُهم: المجاهدُ في سبيل الله، والمكاتَبُ الذي يُريد الأداءَ، و الناكحُ الذي يُريد العفاف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا مَعشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فَلْيَتزوَّج، فإنه أَغَضُّ للبصر وأحصنُ للفرْج، ومَن لم يَستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَزَقَه اللهُ امرأةً صالحةً فقد أعانه على شَطْرِ دينه، فَلْيَتَّقِ اللهَ في الشَّطْرِ الثاني.
وهذه الفائدة (مِن أهمِّ) فوائد الزواج حسب قول النبي صلى الله عليه وسلم.
الفائدة الخامسة: اجتماعيةٌ. وفي هذه الفائدة جانبان: جانبُ تكثيرِ النسل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: تَناكَحُوا تكاثروا فإني أُباهي بكم الأُمم. وجانب حِفظ المجتمع من الأمراض. قال صلى الله عليه وسلم: ثلاثةٌ حَقٌّ على الله عَونُهم. وذَكَرَ منهم: الناكح الذي يُريد العفاف.
الفائدة السادسة: إنشاءُ مؤسسةٍ مثاليةٍ في المجتمع، وهي تربيةُ الأولاد تربيةً صالحةً مُثمرةً، فإنّ الزواجَ المستقِرَّ الناجِحَ يُؤثِّرُ إيجابياً في تنشئةِ الأجيال. والزواجُ الفاشلُ أو العلاقةُ المحرَّمةُ بين الذَّكر والأنثى يُؤثِّرُ سَلْباً على أفرادِ المجتمع، فَيَنْشَؤُ جيلٌ مُتفكِّكٌ مُعقَّدٌ، مُضطرِبٌ نفسياً وجسدياً وعاطفياً ودينياً وأخلاقياً.
ولَمّا كان الزواجُ فيه هذه الفوائدُ الكبيرةُ والنفيسةُ العامّة والخاصّة: حَبّبَه الله إلى أَحَبِّ الْخَلْقِ إليه، وهم الأنبياء والرُّسُل، ومِنهم أَفضلُهم وأَحَبُّهم إلى الله: سيّدُنا محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فقد قال: حُبّبَ إليّ مِن الدّنيا: النساءُ والطِّيب. وجُعلتْ قُرّة عيني في الصلاة.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يُجامِعُ تِسعَ نِسوة في ليلة واحدةٍ، وقد أُعطي قوّة ثلاثين رجلاً في الجماع.
ولم يكن هذا الاختصاصُ للنبيِّ شاغلاً له عن عِمارةِ الأرض، وبناءِ الأمّةِ، وتَرسيخِ قواعدِها، وإثباتِ وجودِها، وتَثبيتِ قوّتِها؛ فِكرياً، ودِينياً، وحضارياً، وهذا هو الكمالُ في الرّجال، أنْ يُشبِعَ غَريزتَه التي زُرعت فيهِ كما زُرع فيهِ الجوع، ولا يَشْغَلُه هذا الإشباعُ عن رسالتهِ الساميةِ في الحياة، وعِمارتهِ الأرضَ بالعدلِ والعِلْمِ والمعرفةِ والتقدّمِ.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قُدوةً في فَنّ التعامل مع الزوجة، ونِبراساً لإرشادِ الناس إلى الرقيِّ بالتعامل مع الزوجةِ معاملةً حَسَنةً يَظْهَرُ أَثَرُها الإيجابيُّ في الحياة الزوجية والاجتماعية.
وللحصولِ على أُسْرَةٍ مثاليةٍ وحياةٍ اجتماعيةٍ مُثمرة: لا بدّ لها مِن تثقيفٍ متنوعٍ، التثقيفِ الرّوحي، والتثقيفِ الفِقهي، والتثقيفِ الْخُلقي، والتثقيفِ الجنسيِّ والعاطفيِّ. وقد ألّفتُ عِدّةَ كُتب في التثقيف الجنسي، مِنها كتاب: المباحات الجنسية في الحياة الزوجية وكتاب: فنّ التواصل الجنسي بين الزوجين. وكتاب: الجديد في العلاقات الجنسية.
وفي الحقيقةِ إنّ الناحيةَ التَّفَنُّنِيّةَ والذَّوقيةَ والأخلاقيةَ في الحياة الزوجيّة، تحتاجُ إلى بحثٍ طويلٍ؛ لِكثرةِ الأمثلة والأدلّةِ عليها، وهي نبراسٌ لكلِّ زوجَيْن يُريدانِ السَّكَنَ والاستقرارَ، تزيد في ثوابهما، وتُثَقِّل ميزانَ حسناتهما، ولو كان للنّفْسِ مِنها حَظٌّ ومُتعةٌ ولَذّةٌ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ. (أي: في جِماع أَحدِكم زوجتَه وقضاءِ شهوتهِ أَجْرُ الصّدَقة). قالوا: آيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أَجْرٌ؟ قال: أرأيتم إنْ وَضَعها في حرامٍ أكان عليه وِزْرٌ، فكذلك إذا وَضَعها في حلالٍ كان له فيها أَجْرٌ.
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنكَ مهما أَنْفَقْتَ مِن نَفَقةٍ فإنها صَدَقَةٌ، حتى اللقمةَ التي تَرْفَعُها إلى فِيِّ امرأتِك.
قال الإمامُ النوويُّ رحمه الله: في هذا الحديثِ: أنّ المباحَ إذا قَصَدَ به وَجْهَ الله تعالى صار طاعةً ويُثابُ عليه، وقد نَبَّهَ صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: حتى اللقمةَ تَجعلُها في فيِّ امرأتك؛ لأنّ زوجةَ الإنسانِ هي مِن أَخَصِّ حُظوظهِ الدّنيويةِ وشهواتهِ وملاذّهِ المباحةِ، وإذا وَضعَ اللقمةَ في فِيها فإنّما يكون ذلك في العادةِ عند الملاعبةِ والملاطفةِ والتّلذُّذِ بالمباح، فهذه الحالةُ أَبْعَدُ الأشياءِ عن الطاعةِ وأُمورِ الآخِرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّه إذا قَصَدَ بهذهِ اللقمةِ وَجْهَ الله تعالى حَصَلَ له الأجرُ بذلك، فغيرُ هذه الحالةِ أَوْلى بحصولِ الأَجْر إذا أرادَ وَجْهَ الله تعالى.
ويَتضمّنُ ذلك أنّ الإنسانَ إذا فَعَلَ شيئاً أَصلُهُ على الإباحةِ وقَصَدَ بهِ وَجْهَ الله تعالى يُثابُ عليه، وذلك كالأكل بنيّةِ التقوى على طاعة الله تعالى، والنومِ للاستراحة لِيقوم إلى العبادة نشيطاً، والاستمتاعِ بزوجتهِ وجاريتهِ لِيكفَّ نَفْسَهُ وبَصَرَهُ ونحوَهما عن الحرام، ولِيقضي حَقَّها، ولِيُحَصِّلَ ولداً صالحاً. وهذا معنى قولهِ صلى الله عليه وسلم: وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ.
إنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يكن رَجُلَ دولةٍ فقط، ولا رَجُلَ سياسةٍ فقط، ولا رَجُلَ عِلْمٍ ونُبوّةٍ ودعوةٍ فقط، وإنما جَمَعَ إلى هذه الأحوالِ: الرِّقّةَ والرّفْقَ والرّأفةَ والرّحمةَ، والعطفَ والحنانَ، والمودّةَ والمحبّةَ والرومانسيةَ، وقمّةَ فَنِّ التعامل مع الناسِ، وبخاصةٍ في الحياة العاطفية والزوجية.
وهذا لا يُقلّلُ مِن عَظَمةِ النبي صلى الله عليه وسلم ومكانتهِ ورِفعتهِ وعُلُوِّ مَقامهِ، بل إنّ هذا يَزيدُ في مقامهِ رِفعةً وعُلُوّاً، لأنّ الرَّجُلَ الكامِلَ القُدوةَ الحسنةَ هو الذي يُعطي كلَّ شيءٍ حَقَّهُ، يُعطي رَبَّه حقَّه، ويُعطي الدولةَ حقَّها، ويعطي الرعيةَ حقوقَهم، ويُعطي العِلْمَ حقّهَ، ويُعطي أهلَه وزوجتَه حقوقَهم، ويُعطي الناسَ حقوقَهم.
لقد أخطأَ بعضُ الناس عندما نَظَروا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّه رَجُلٌ مُجرَّدٌ مِن العواطف والمشاعر والأحاسيس، والعَطفِ والْحنان، فهو بنظرِ هؤلاء مُجرَّدُ رَجُلٍ شجاعٍ قويٍّ يُجاهِدُ ويُدافع عن دِينه وشَعْبهِ، ويَقضي وقتَه كلَّه في الأمور الجدّية التي لا يَتخلّلُها مَزْحٌ ولا مَرَحٌ ولا مِزاحٌ ولا مُضاحكةٌ ولا ملاعبةٌ. حتى إنّ بعضَ الناسِ ظنّ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُجرَّدٌ أصلاً مِن الشهوة لا يَشْعُرُ بالحاجةِ إلى الزواج، وزواجُه كان لِجَبْرِ الخواطر، وللتشريعِ فقط، لا للّذةِ ولا للمتعةِ ولا لِقضاء الشهوة!!
وهذا المفهومُ خطأٌ، لا يَتّفقُ مع مَقامِ النّبوّة، فإنه يَفقدُها القدوةَ الحسنةَ، ويَجعلُ النبيَّ أَشْبَهَ بجسمٍ مُتحرّكٍ لا حولَ له ولا قُوّةَ ولا بشريةَ ولا غريزةَ ولا عواطفَ ولا مشاعرَ. وبالتالي لا يَصلحُ أنْ يكونَ قُدوةً يُقتدى به في جانبٍ مُهمٍّ مِن الحياة.
بالإضافة إلى أنه مفهومٌ مُخالِفٌ لِما ثبَتَ وصَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان أقوى الناسِ شهوةً، وأكثرَهم جِماعاً للنساء، وأشدَّهم حُبّاً للنساء. وبهذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد جَمعَ صفات الكمال.
وبعبارة أُخرى: إنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتمتَّعُ كغيرهِ بمشاعرَ وأحاسيس وعواطف وغرائز، ولكنّه مِن كمالِهِ وعظَمتهِ لم تكن قُوَّتُه الشهوانيةُ تُسيطرُ عليه وتتحكّمُ به، وتَشغَلُه عن القيام بمهامّهِ ووظائفهِ ورسالتهِ في الحياة الدّينيّة والدّنيوية. وهذه هي العَظَمة، أنْ يُعطي الإنسانُ كلَّ شيءٍ حَقَّه مِن دونِ تقصيرٍ ولا خَلَلٍ ولا تفويتٍ لِحقٍّ على حِسابِ حَقٍّ آخَرَ.
فنَبِيُّنا نالَ القِمّةَ في جميع جوانبِ حياتهِ، فإنْ سألتَ عن رسالتهِ فرسالتُهُ خاتمةُ الرسالات، وإنْ سألتَ عن عبادتِهِ فقد كان أعبدَ الناس، وإنْ سألتَ عن وَرَعهِ وتقواه فقد كان أورعَ الناسِ وأَتقاهم، وإنْ سألتَ عن عِلمهِ وفَهمهِ فقد كان أعلمَ الناس. وإنْ سألتَ عن رأفتهِ ورحمتهِ ورِقّتهِ وعَطفهِ وحنانهِ وذوقهِ فقد كان أَرأفَ الناسِ، وأرحمَهم وأرقَّهم، وأشدَّهم عطفاً وحناناً وذوقاً وأدباً، وأَحْسَنَهم خُلُقاً.
بعضُ الناسِ فاتَهُمْ معرفةُ هذا الجانب مِن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنّهم يمارسون الجانب الرومانسي في حياتهم.
وبعضُ الناسِ غاب عنهم أصلاً فَنُّ التعامل مع الزوجةِ، وبعضهم أنكره بالكليّة، فلا هُمْ عَلِمُوا فنَّ تعاملِ النبي صلى الله عليه وسلم وحياتَه العاطفيةَ والرومانسية والذوقيةَ، ولا هُمْ تَعَلَّمُوا فَنَّ التعاملِ في الحياة الزوجية مِن غير النبي صلى الله عليه وسلم، فصارتْ حياتُهم الزوجيةُ جافّةً قاسيةً، وأَثَّرَ هذا على جوانبَ مُتعدّدة مِن حياتهم الزوجيةِ والاجتماعيةِ والنّفْسيّةِ.
لَيْتَ الطَّرَفَ الأوّلَ تَوَّجَ بالعِلْمِ والمعرفةِ: ما يُمارِسهُ في حياته الزوجية العاطفية، فاطّلعَ على ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعلُه مِن فنِّ التعامل مع نسائهِ، لِيكونَ على بصيرةٍ مَمّا يفعلُه، ولِيُرَسِّخَ مفهومَه الصحيحَ عن الذّوق والفنّ في الحياةِ الزوجية العاطفية.
وأما الطّرَفُ الثاني: الْمُنْكِرُ، والذي غابت عنه الحقيقة، فهو مُخطئٌ، لأنّ غيابَ الحقيقة مُصيبةٌ، و الإنكارَ بلا عِلْمٍ مُصيبةٌ أكبر، قال الله تعالى: ولا تَقْفُ ما ليسَ لكَ بهِ عِلْمٌ إنّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفؤادَ كُلُّ أُولئكَ كانَ عنهُ مَسْؤولاً.
فمَنْ تَكَلَّمَ بلا عِلم، أو أَنْكَرَ العِلْمَ، فقد خالفَ الأمرَ الإلهيَّ، وسيُسألُ عن هذهِ الجرأةِ يوم القيامة.
نماذج مِنْ فَنِّ التّعامل في الحياة الزوجية:
ليس الإنسانُ مُجرّدَ لحمٍ وشَحْم، ودَم وعَظْم، وإنما هو بالإضافةِ إلى ذلك: ذو مشاعرَ وعواطفَ، وروحٍ وقَلْبٍ وعقلٍ. وكلُّ هذا له حقُّه وغذاؤه، ولا يَستقيمُ حالُ الناسِ ومسيرةُ حياتهم إذا كان هناك خَلَلٌ في تغذيةِ هذه الأشياء.
مِن أَجْلِ هذا شَرّعَ الإسلامُ قوانينَ وأُسُساً لِفنِّ التعامُلِ مع هذا المخلوقِ العجيبِ، فجَعَلَ مَنْ يُحْييهِ كأنّما أَحيا الناسَ جَميعاً، قال الله تعالى: ]مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسادٍ في الأرضِ فكَأَنّما قَتَلَ النّاسَ جَميعاً ومَنْ أَحياها فكأنّما أَحيا الناسَ جميعاً.
وجَعَلَ الإنسانَ اللطيفَ في التّعامل: مِن أَحْسَنِ الناسِ إسلاماً، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أَحْسَنَ الناسِ إسلاماً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً.
وجَعَلَ الإسلامُ لِمنْ يَتَبَسّمُ في وَجْهِ هذا الإنسانِ: صَدَقةً يَنتفعُ بها في الدّنيا والآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخيكَ صَدَقَةٌ. والصدقةُ تُطفئ غَضَبَ الرَّبِّ، وتَدْفَعُ البلاءَ.
وهذا كلُّه يَدْفَعُ الإنسان ويُحفِّزُه برغبةٍ شديدةٍ إلى التّفنُّنِ في التّعامُل مع الناس مُعاملةً حَسَنَةً لطيفةً إيجابيةً، لِينالَ بذلك أوّلاً رِضا اللهِ سبحانه، ومِن ثَمَّ الجنّة. ولِينالَ في الدّنيا احترامَ الناس وحُبَّهم وتقديرَهم والتعايشَ معهم بمودّةٍ وتآلُفٍ، وتعاونٍ على بناءِ الحياةِ وعِمارة الأرض.
© المودّةُ والرحمةُ مِن أُسُسِ فنِّ التعامل (الإتكيت):
قال الله تعالى: ]وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[. وقال الله تعالى عن الأزواج والزوجات: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كلّ شيءٍ، إلا النكاح. يعني إلا الجماع في أيام الحيض. فإذا انتهى الحيضُ عاد كلُّ شيءٍ على حالهِ، وهو فِعلُ جميعِ أنواع الاستمتاع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مِن السّعادةِ المرأةُ الصالحةُ، تَراها تُعجبكَ.
المرأةُ الصالحةُ تُعْجِبُ زوجَها وتَسُرُّه وتُسْعِدُه: إذا أطاعتْ رَبَّها، وحصَّنتْ نَفْسَها وتَعَفَّفتْ.
المرأةُ الصالحةُ تُعْجِبُ زوجَها وتَسُرُّه وتُسْعِدُه: إذا تغنّجَتْ له، وتزَيَّنَتْ وتَجَمَّلَتْ وتفَنَّنَتْ في إسعادهِ وإمتاعهِ.
فالأصلُ في التعامل بين الزوجين أنْ يكون بالرأفةِ والرّحمةِ والمودّةِ، والحبِّ والعَطفِ والحنان، والذّوقِ والرِّقّةِ، والمعاملة الحسنةِ، وحفظِ العشرة، وممارسةِ المتعةِ الجنسيةِ الجسديّة. ولِتكونَ حياتُهما مُتوَّجةً بالسعادة الأبديّةِ لابدّ مِن تأسيسِ العلاقةِ الزوجية على القيامِ بحقوقِ الله تعالى، وحقوقِ بعضِهم بعضاً.
© الرّقّةُ والرِّفْقُ والمداراةُ مِن أُسُسِ فنِّ التعامل:
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَقيقاً رَحيماً. كان رَحيماً رَفيقاً . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإيّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ. وقال: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأَمْرِ كُلِّه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مداراةُ الناسِ صَدَقَةٌ.
والحكمةُ تقول: (الأقربون أولى بالمعروف)، والزوجان أولى أنْ يتعاملا مع بعضهما بهذه الرّقة والرّأفة والرفق والمداراة.
© الْخُلُقُ الْحَسَنُ واللّطفُ والإحسانُ مِن أُسُسِ فنِّ التعامل (الإتكيت):
قالت زوجةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عائشةُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهلِهِ، وأنا خَيْرُكم لأهلي)). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: استَوصوا بالنساء خيراً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَكْمَلُ المؤمنينَ إيماناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، وخيارُكُم خيارُكُم لِنسائِهِم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنّ مِن أَكْمَلِ المؤمنينَ إيماناً أَحْسَنَهُمْ خُلُقاً، وأَلْطَفَهُم بأهْلِهِ)).
© اللِّينُ والسهولةُ مِن أُسُسِ فنِّ التعامل (الإتكيت):
قال الله تعالى: ]فَبِما رَحْمَةٍ مِن اللهِ لِنْتَ لَهُم ولو كُنْتّ فَظّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: حُرِّمَ على النّار كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ، قريبٍ مِن الناس.
© المرح في الحياة الزوجية ©
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قِمّةً في فَنِّ التّعامل (الإتكيت) والأدبِ والذَّوقِ والرِّقّة، والأخلاقِ الحسنةِ، واللطفِ والمودةِ في حياتهِ الزوجيةِ.
§ وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَفْكَهَ الناس مع نسائه. يعني: أَكثرَ الناسِ مَزْحاً وفكاهةً ومَرَحاً.
J وقالت عائشةُ رضي الله عنها: زارَتْنا سَودةُ يوماً فَجَلَسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها، إِحدى رِجلَيْهِ في حِجْرِي، والأُخرى في حِجْرِها، فَعَمِلْتُ لها حَريرةً، فقلتُ: كُلِي. فَأَبَتْ، وقالتْ: لا أَشتهي ولا آكُلُ، ما أنا بذائقتِها. فقلت: [واللهِ] لَتَأْكُلين أو لأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ. فَأَبَتْ فقالت: ما أنا بذائقتِها، فَأَخَذْتُ مِن القَصْعَةِ شيئاً، فَلَطَّخْتُ به وَجهَها، فَضَحِكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَهُ مِن حِجْرِها لِتَسْتَقِيدَ مِنّي وقال لِسَوْدَةَ: اِلطخي وجهَها فَأَخَذَتْ مِن القَصعةِ شيئاً فَلَطَّخَتْ بهِ وجهي، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ. فإذا عُمر يقول: يا عبدَ الله بن عُمر، يا عبد الله بنَ عُمر، فَظَنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّه سَيدخلُ فقال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قُوما فاغسلا وجوهَكما فإنّ عمر داخلٌ.
فقال عمر: السلامُ عليكَ أيّها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاتُه، السلام عليكم أَأَدْخُلُ؟ فقال: اُدْخُلْ اُدْخُلْ. فلا أَحسبُ عمرَ إلا داخلاً. " فما زِلْتُ أَهابُ عُمرَ لهيبةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه".
& وفي هذا الحديثِ فوائدُ:
الفائدة الأولى: مبالغةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمباسطةِ مع الزوجة.
الفائدة الثانية: تفاعلُ النبي صلى الله عليه وسلم مع جَوِّ المرَحِ.
الفائدة الثالثة: عَدْلُ النبي صلى الله عليه وسلم في المرحِ والمباسطةِ. فَمَعَ أنّه صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ عائشةَ أكثرَ مِن غيرها، لم يَجعلْهُ ذلك يَميل إليها في الظاهر، بل ساعدَ زوجته الأخرى سَودةَ لِتُلطّخَ وَجْهَ عائشةَ بالطعام. وحَصَلَ ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وخَيَّمَ على المجلس جوٌّ مِن المرح والضّحكِ والسُّرور.
الفائدة الرابعة: في هذا الموقفِ النبويِّ تأصيلٌ لِفنِّ التعامل الراقي في الحياةِ الزوجية، فهو نبيٌّ ورسولٌ، يَتلَقّى الوحيَ مِن الله، ويَنـزِلُ عليه جبريل، ويَبني دولةً، ويَقضي بين الناس، ويُدافع عن دولته وشعبه ودِينهِ، ويَنصر الحقَّ الذي كان مفقوداً في ذاك الزمان، ويقوم بعبادةِ ربِّه حقَّ قيامٍ .. إلى آخر تلك الصفاتِ والأحوال، ومع هذا كلِّه لم يَمتنعْ صلى الله عليه وسلم مِن مشاركةِ زوجاتهِ في الْمرَحِ والفَرَحِ والسُّرور.
فإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتفاعلُ مع جوِّ الْمَرَحِ والفَرَح والسرورِ، ويُشارِكُ فيه، فمِن بابِ أَوْلى أنْ يَفْعلَه مَن هو دُوْنَهُ في المقامِ والمكانةِ، والدِّين والعِلْمِ، والتّقوى والعبادةِ والورع، والانشغالِ بِنَشْرِ الإسلام.
وهكذا كان حالُ تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم، لم يَمنعْهُم انشغالُهم في الجهاد والعِلم والدعوةِ والعِبادة، مِن أنْ يُمارِسوا المرحَ والفُكاهة، فقد كانَ الإمامُ العالِمُ الجليلُ المقرئُ الفقيهُ الصحابي زيدُ بنُ ثابت رضي الله عنه مِن أَفْكَهِ الناسِ مع أَهْلِهِ.
J قال الصحابيُّ حَنْظَلَةُ الأُسيدي رضي الله عنه: كنّا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنا الجنةَ والنارَ حتى كأنّا رَأْي عينٍ، فَقُمْتُ إلى أَهلي، فَضَحِكْتُ ولَعِبْتُ مع أَهْلي وولدي، وفي روايةٍ: فَضاحَكْتُ الصّبيانَ، ولاعبتُ المرأةَ) فَذَكَرْتُ ما كنتُ عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ فَلَقِيْتُ أبا بَكرٍ فقلتُ: يا أبا بكر نافَقَ حَنْظَلَةُ! قال: وما ذاكَ؟ قلتُ: كنا عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنا الجنّةَ والنارَ حتى كأنّا رأيُ عَيْنٍ، فَذَهَبْتُ إلى أَهْلي فَضَحِكْتُ ولَعِبْتُ مع وَلَدي وأَهْلي. فقال: إنّا لَنَفْعَلُ ذاكَ. قال حَنْظَلَةُ: فَذَهَبْتُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذلك له، فقال: يا حَنْظَلَةُ لو كُنتم تَكونونَ في بيوتكم كما تكونون عندي لَصافَحَتْكُم الملائكةُ وأَنتم على فُرُشِكُم وبالطُّرُقِ؛ يا حَنْظَلَةُ، ساعةً وساعةً.
كان أبو بكر الصّدّيق مِن أَتقى الناسِ وأَصدقِهم إيماناً، وأشدِّهِم تفانياً في الدِّينِ ونُصرتهِ، وأَقربِهم مكانةً مِن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان حنظلةُ الأُسيدي مِن كُتّابِ الوحي.
وهذه المكانةُ لأبي بكر الصّدّيق وحنظلة: لم تمنعهما مِن مضاحكةِ الأهلِ وملاعبتِهم، ومضاحكةِ والأولاد وملاعبتهِم.
ورسّخَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهومَ بقولهِ وعَمَلِهِ، أمّا العملُ فتَقَدَّمَ مَرَحُهُ مع زوجاتهِ، وسيأتي الكثيرُ مِنها. وأمّا القولُ فقوله صلى الله عليه وسلم: ((ساعةً وساعةً)). وغيره مِن الأحاديث الكثيرة.
© إدخال السرور على قلب الزوجة ©
عن السائبِ بنِ يَزيد أنّ امرأةً جاءت إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشةُ أَتَعْرِفينَ هذه؟ قالت: لا يا نبيَّ الله. فقال: هذهِ قَيِّنَةُ بَني فُلان، تُحِبِّيْنَ أنْ تُغَنِّيَكِ؟ قالت: نَعَمْ. فأعطاها طَبَقاً فَغَنَّتْها فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: قد نَفَخَ الشّيطانُ في مَنْخِرَيْها.
& في هذا الحديثِ فوائدُ:
الفائدة الأولى: عَرْضُ الزوجِ رَفيعِ الْقَدْرِ والشّأنِ: على زوجتهِ ما يُفرحُها ويُسعِدُها.
الفائدة الثانية: جوازُ استخدامِ القَيِّنةِ الْمُغَنِّيةِ في غيرِ العِيدِ والعُرسِ، إنْ خلا مِن مُحَرَّمٍ مُتَّفَقٍ عليهِ.
الفائدة الثالثة: الظّاهرُ مِن وَصْفِ القَينةِ أنّها كانت تُحْسِنُ الغناءَ وتُتْقِنُهُ، وليستْ كُلُّ قَينةٍ مُغنّيةٍ مَذمومةً، وإنّما المذمومةُ هي المغنّيةُ التي تُغَنّي سافرةً بِحضرةِ الرّجالِ، ومجالسِ الفُجورِ.
الفائدة الرابعة: إباحةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعضَ الغناءِ الخالي مِن المحرَّمات المتّفَقِ عليها، ولو كان للشيطانِ حَظٌّ مِن هذا المباح، فلو كان مُحرَّماً لَما أَقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَظَهَرَ أنّ قَرْنَه بالشيطان (هنا في هذا الحديثِ) لا يَعني التّحريمَ، وقد ذَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أشياءَ مِن دونِ أنْ يُحَرِّمَها لذاتها، فقد نَهى آكِلَ الثّومِ والبصلِ وأمثالِهما أنْ يَقْرَبَ المسجدَ، لأنه يُؤذي ابنَ آدم والملائكة، وسَمّاهما طعاماً خَبيثاً، مع أنّ أصلَ أكلهِ حلالٌ بالإجماعِ.
© وقالت عائشةُ رضي الله عنها: بينا أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالسانِ في البيتِ، استأذنتْ علينا امرأةٌ كانتْ تُغنّي، فَلَمْ تَزَلْ بها عائشةُ رضي الله عنها حتى غَنَّتْ، فَلّما غَنَّتْ استأذنَ عُمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، فلمّا استأذنَ عمرُ أَلْقَتِ المغنّيةُ ما كان في يدها وخَرَجَتْ، واستأخرتْ عائشةُ رضي الله عنها عن مَجلسها، فَأَذِنَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ فقال: بأبي وأُمّي مِمّا تَضْحَكُ؟ فَأَخْبَرَهُ ما صَنَعَتِ القَيّنةُ وعائشةُ رضي الله عنها. فقال عمرُ رضي الله عنه: أما واللهِ لَلّهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أنْ يُخشى يا عائشةُ.
وفي هذا الحديثِ دلالةٌ واضحةٌ على أنّ الغناءَ والعَزْفَ لم يكن في مناسبةِ العيدِ ولا العُرْسِ، وإنما كان لإدخالِ السّرورِ على قَلْبِ الزوجة الشابّةِ الصغيرةِ الحريصةِ على اللهو، وكانت السيدةُ عائشةُ تقول: اُقْدُروا قَدْرَ الجاريةِ الحديثةِ السِّنِّ الحريصةِ على اللهو.
© وسيأتي مراعاةُ النبي صلى الله عليه وسلم لِسِنِّ الزوجةِ، حيثُ عرض عليها أنْ تنظُرَ إلى الحبشةِ وهم يلعبون، فوقَفَتْ وراءَ النبي صلى الله عليه وسلم، ووضَعتْ ذَقْنَها على عاتقِه، وخدّها على خدِّه، وفي هذه الحالة قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لِتَعْلَمَ يهود أنّ في دِيننا فُسحةً، إني أُرْسلْتُ بحنيفيةٍ سِمحةٍ.
وكانت السيدة عائشة تقول في ذلك: اُقْدُروا قَدْرَ الجاريةِ الحديثةِ السِّنِّ، الحريصةِ على اللهو.
C كان سِنُّ عائشة آنذاك 15 أو 16 سنة، والحادثةُ كانتْ بَعْدَ نُزولِ الْحِجاب. فما نَقَصَ واللهِ مَقامُ رسولِ الله بهذا التّعامُل واللطف مع أهلهِ، مع أنّه صلى الله عليه وسلم مشغولٌ بأمورٍ أعظمَ مِن هذه الأمور، فهو حديثُ عَهْدٍ ببناءِ دولةٍ مَصيريّةٍ، قويّة في بنيانها وعقيدتها، وأُسسها ومبادئها ودُستورها وشَعْبِها، حتى تَصْمُدَ وتدومَ، ويَصْلُحَ مِنهاجُها أنْ يكونَ نُوراً هادياً لأفرادِ العالِم كلِّه؛ ولكنّ هذا الْهَمَّ والاهتمام ببنيان الأُمّة، وتبليغِ هذه الرسالة العالمية، وهذا الطّموحَ: لم يَمنعِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن التعامل اللطيف، والرومانسيةِ الجميلةِ، والذّوقِ والرِّقّةِ، وقضاءِ الوقتِ مع الزوجةِ صغيرةِ السنّ الحريصةِ على اللعب واللهو، والتّرفيهِ والتّرويحِ عن النّفْسِ.
فَلِمَ لا يَأخذُ الزوجُ زوجتَه في أيامِ العِيد (مثلاً) إلى منطقةٍ رومانسيةٍ فيها المناظرُ الجميلةُ الجذّابةُ، والأضواءُ الخلابةُ، وتَضَعُ خَدَّها على خَدِّهِ، ويَستمتعانِ بما أَحَلَّ الله لهما؟ ولِمَ لا يَحضُرانِ حفلةً أو مهرجاناً، أو فِيلماً، سواءٌ كان عامّاً أم خاصّاً ضِمنَ الضوابطِ الشرعيةِ، التي ثَبَتَتْ في السُّنّة الصحيحة، فكم مِن حديثٍ صحيحٍ ثَبَتَ فيه حُضورُ النساءِ والرجالِ في مَحْفِلٍ عامٍّ، أو اجتماعٍ خاصٍّ، ضِمْنَ الحدود الشرعية. وقد ثَبَتَ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ النساءَ أنْ يَشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين. وفي هذا دليلٌ على جوازِ حُضورِ مَجامعِ الخير، والمهرجاناتِ الهادفةِ، والاحتفالاتِ المفيدةِ الْمُسلّية الْمُرَوِّحةِ عن النَّفْس.
© تعطير الزوجة زوجها ©
قالت عائشة رضي الله عنها: كنتُ أُطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَيطوفُ على نسائهِ، ثم يُصْبِحُ مُحْرِماً يَنْضَخُ (تَفوحُ رائحتُه) طِيباً. وقالت أيضاً: طَيَّبْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأطيبِ الطِّيْبِ.
& وهذا كلُّه مِن بابِ الذّوقِ والتّفنّنِ في التعامل لإدخالِ السّرورِ، وزيادةِ المودةِ والمحبّة، وليس مِن بابِ الْخِدْمةِ فقط، وإنما فيهِ زيادةٌ على ذلك عِدّةُ معانٍ منها:
بيانُ أنّ المرأةَ الحائضَ يجوز أنْ تقتربَ مِن زوجها وتُسرِّحَه، وتَغْسِلَ رأسَه، خِلافاً لمعتقداتِ اليهود آنذاك.
ومِن المعاني الرقيقةِ التي تَضَمَّنَتْها هذه الأحاديثُ السابقةُ: الذّوقُ الرفيعُ في التعامل، بأنْ تُدخِلَ الزوجةُ السرورَ على قَلْبِ زوجِها، بالعنايةِ به، بجسمهِ وشَعرهِ وتَنظيفهِ وتجميلهِ وتعطيرِه، مع أنّ الخدمَ كانوا مُتوافرين عندهم. فلا الزوجةُ تركت الخدمَ يفعلون ذلك، ولا الزوجُ امتنع مِن مبادرة الزوجة الحنونةِ.
© وضع الخد على الخد ©
§ قالت السيدةُ عائشةُ رضي الله عنها: دَخَلَ الحبشةُ المسجدَ يَلعبون فقال صلى الله عليه وسلم لي: يا حُميراءُ، أَتُحِبّينَ أنْ تَنْظُري إليهم؟. فقلتُ: نَعَمْ. فقام بالبابِ وجئتُهُ، فَوَضَعْتُ ذَقني على عاتِقِهِ، فَأَسْنَدْتُ وجهي إلى خَدِّه.
وقالت عائشة: وَضَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَقْني على مَنكبَيه لأَنْظُرَ إلى زَفْنِ الحبشةِ، حتى كنتُ التي مَللتُ فانْصَرَفْتُ عنهم. وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: لِتَعْلَمَ يهود أنّ في دِيننا فُسحةً، إني أُرْسلْتُ بحنيفيةٍ سِمحةٍ.
وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: تَشتهينَ تَنْظُرين؟. فقلت: نَعَمْ. فَأَقامَني وراءَه خَدِّي على خَدِّهِ.
وفي هذا الحديثِ فوائدُ منها: جوازُ اصطحابِ الزوجِ لِزوجتهِ إلى أماكنِ المرَحِ والفَرَحِ، والاحتفالاتِ الخاليةِ مِن المحرّمات المتّفقِ عليها، فإنّ هذا مَحبوبٌ إنْ ضُبِطَ بضوابطَ شرعيّةٍ.
ومِمّا يُثير الإعجابَ بهذا النبيِّ العظيم، أنْ يَعْرِضَ على زوجتِه النّظرَ إلى اللهوِ واللعبِ، بمثابةِ فِيلم ترفيهي، والأعجبُ مِن ذلك المنظرُ الجميلُ الرومانسي، وهو أنّ ذَقْنَ عائشةَ على كتفِ النبي صلى الله عليه وسلم، وخدّها على خدّهِ صلى الله عليه وسلم.
ä دعوة الزوج لزوجته إلى المطعم ä
C مِن روائعِ فَنِّ التعامل اصطحابُ الزوجةِ إلى أماكنِ المرَحِ والاستجمام، ودَعوتِها إلى الطّعام، وإشراكِها في العَزيمةِ، واصطحابِها في السَّفَر، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ مع زوجتهِ.
C عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، أنّ جاراً لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طَيّبَ الْمَرَقِ، فَصَنَعَ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يَدعوهُ فقال: وهذهِ لِعائشةَ. فقال: لا. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا. يَعني رَفَضَ الذهابَ وحده. فعاد يَدعوهُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: وهذهِ. قال: لا. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا. ثم عاد يدعوهُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذهِ. قال: نَعَمْ. في الثالثةِ. فقاما يَتَدافَعانِ حتى أَتيا مَنـزِلَه.
مِن المحبَّبِ اصطحابُ الزوج لزوجتهِ إلى المطعمِ أو الدعوة، أو غير ذلك من أنواع التنـزّه المشترك بالحدود الشرعية.
© مراعاة الزوجة حاجة زوجها ©
§ أَعْطَتْ نِساءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَثَلاً أَعلى في مراعاةِ حاجةِ الزوجِ، فقد قالت عائشةُ رضي الله عنها: كان يَكونُ عليَّ الصومُ مِن رمضانَ، فما أَستطيعُ أنْ أَقضيَه إلا في شعبانَ، الشُّغْلُ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو بِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة: إنْ كانتْ إِحدانا لَتُفْطِرُ في زمانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَما تَقْدِرُ على أنْ تَقْضِيَهُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيَ شَعبانُ.
قال الإمام النووي رحمه الله: كُلّ واحدةٍ مِن نِساءِ النبي صلى الله عليه وسلم مُهَيِّئَةٌ نَفْسَها لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُترصِّدةٌ لاستمتاعهِ في جميعِ أوقاتِها إنْ أرادَ ذلك، ولا تَدْري متى يُريدُه، ولم تَستأذِنْهُ في الصوم مَخافةَ أنْ يأذنَ، وقد يكونُ له حاجةٌ فيها فتفوِّتها عليه، وهذا مِن الأدب.
§ وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: دَخَلَ عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَرأَى في يَدَيَّ فَتَخاتٍ مِن وَرِقٍ (أي خواتيمَ مِن فِضّة) فقال: ما هذه يا عائشةُ؟. فقلتُ: صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لكَ فيهنّ يا رسول الله.
§ وأَخَذَتْ عائشةُ خِماراً لها قَدْ ثَرَّدَتْهُ (أي صَبَغَتْه) بزعفرانٍ، فَرَشَّتْهُ بالماء لِيُذَكِّيَ رِيْحَه، (أي لِتفوحَ رائحتُه الطَّيِّبةُ فَيَسْتَمْتِع الزوجُ) ثم لَبِسَتْ ثيابَها، ثم انطلقتْ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
J وقالت عائشةُ رضي الله عنها لأبي هُريرة: أَكْثَرَتَ الحديثَ يا أبا هريرة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني واللهِ يا أُمّتاهُ ما كانتْ تَشْغَلُني عنه الْمُكْحُلَةُ [والْخِضابُ] ولا الْمِرْآةُ ولا الدّهْنُ، [ولكني أَرى ذلك شَغَلَكَ عمّا استكثرتُ مِن حَديثي]. فقالت: لعله.
هذهِ الأحاديثُ تُعطينا صُورةً جميلةً مِن صُور عنايةِ المرأةِ بزوجِها، في الزينةِ والتّجَمُّلِ والإشباع للرّجُلِ الرّفيعِ القَدْرِ، والعالِمِ الجليل، والقائدِ المبدع المثالي، وهو أَوْلَى مَنْ تَتَزيَّنُ له الزوجةُ، وتكفيهِ وتُحصّنه، حتى يهدأ بالُه، ويَنشطَ ذِهنُه، فيُفكِّر ويحقّقَ الرسالة التي خُلق مِن أَجْلِها.
وهذه الأحاديثُ تُعطينا أيضاً الموقفَ الإيجابيَّ مِن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو على رِفعةِ قَدْرِهِ وعُلوِّ مقامهِ، كان يتفاعلُ مع مِثل هذه المبادراتِ مِن نسائه، ولم يُنْكِر عليهنّ ذلك.
ولا ننسى أيضاً عُلوَّ مقامِ عائشةَ زوجةِ النبي صلى الله عليه وسلم، في العِلْمِ والفهمِ والتّقوى والورع.
فنساؤنا أَوْلَى أنْ يَفْعَلْنَ ذلك وأَكْثَرَ، أَعني الزينةَ والتّجَمُّلَ، والتّفرُّغَ لحاجةِ الزوجِ وإمتاعهِ وإشباعهِ وبخاصةٍ في زماننا هذا، زمنِ الفتن والتّفنّنِ في الفجور والإغراء في الحرام.
والرجالُ أَوْلَى أنْ يَتقبَّلُوا ويُشجِّعوا مِثلَ هذه المبادراتِ مِن الزوجات، ويتَفاعَلْنَ معها، لِيحصُلَ الهدفُ مِن الزواج، وتُثْمِرَ الفائدةُ التي جعَلَها الله فيهِ.
© مسح الدمعة عن عيني الحبيبة ©
§ قال أنسُ بنُ مالك: كانتْ صفيةُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، وكان ذلك يَومَها، فَأَبْطَأَتْ في الْمَسير، فَاسْتَقْبَلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهي تَبْكِي وتقول: حَمَلْتَني على بعيرٍ بطيءٍ. فَجَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ بِيَدَيْهِ عَيْنَيْها ويُسَكِّتُها.
وفي رواية: فَجَعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ دُموعَها بيدِهِ.
إنّ السُّنَّةَ مَليئةٌ بمثلِ هذهِ المواقفِ النّبيلةِ الرّاقية،التي تجعلُ الحياةَ الزوجية مستمرةً بسعادة واستقرار، وتوثّقُ روابطها، وتُفعهما بالحبِّ والمودّةِ والتآلُفِ.
المتأملُ في هذه العجالة سيجد أنّ فنّ التعامل في الحياة الزوجية، والذوقَ والرّفقَ والحنانَ والأدبَ والرِّقةَ والمرح .. ليس مِن خُصوصيّاتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يتوَهَّمُ بعضُ الناس، وينادي بضرورةِ كتمانِها، وحَصْرِها بناسٍ دونَ ناسٍ، وحالةٍ دون حالةٍ، وزمنٍ دون زمنٍ!!
إنّ النصوصَ الشرعيةَ القطعيّةَ تَرُدُّ هذا المفهومَ الخاطئَ، وتنادي بتبليغها للناس، خاصِّهم وعامِّهِم، مِن دون تَفريقٍ، لِيكون الناسُ على عِلْمٍ وفَهْمٍ ووعيٍ وإدراكٍ، فيما يَتَعَلَّقُ بالحياة الزوجيةِ وما يُوثِّقها ويُرسِّخُها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire