الشعر العربي والحداثة

يكاد الاهتمام بظاهرة الحداثة في الوطن العربي ـ بشكل عام ـ يرجع إلى التحولات الكبيرة التي ظهرت في شتى مناحي حياة الإنسان العربي ـ سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا . وللحديث عن نشأة هذه الظاهرة وتطورها في الشعر العربي لابد من تقصي أول  حركة تجديدية في التراث الأدبي واتباع سيرورتها عبر مراحلها التاريخية، وقوفا عند  حركة الحداثة في الإنتاج الشعري العربي الحديث. هذا ما سنحاول الاحاطة به هنا.

 

       من ثم، فوجود اتجاهين من الشعراء."اتجاه يعتبر نفسه امتدادا لشعراء العصر العباسي ـ رواد أول حركة تجديدية في الشعر العربي ـ نذكر على رأسهم أبا نواس وأبا تمام، وابن الرومي، والمتنبي، وأبا العلاء، ابن سنا، هؤلاء الشعراء الذين جاءوا بالثقافة اليونانية والبيئة الحضارية الجديدة. فاهتز في وجدانهم هيكل القصيدة العام. فلم يعد ثمة ضرورة لأن يستهل الشاعر قصيدته بالوقوف على الأطلال ولم تعد به حاجة لأن يتجشم عناء الوصول إلى الممدوح على الناقة(…) وظهرت محاولات عديدة لتوحيد موضوع القصيدة بتأثير من المنطق الأرسطي والثقافة اليونانية إجمالا مما هدد قاعدة وحدة البيت بالدمار وساعد على ذلك أيضا التحليق النفسي والفكري لبعض الشعراء كأبي العلاء وابن سنا"

 

       بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضا تغيير على مستوى اللغة الشعرية وذلك بسبب دخول ألفاظ يونانية وفارسية، لاحتكاك اللسان العربي بالألسنة الأعجمية. كما تسللت إلى الشعر بعض الألفاظ الفلسفية والعلمية والدينية والصناعية وكثير من الألفاظ العربية ذات المعاني المستحدثة وليدة الحضارة الجديدة

 

       وهناك أيضا تغييرات على مستوى الوزن والقافية، فنجد مثلا لأبي نواس قصائد خرج بها على نظام الأوزان المعروفة. كما أن أبا العتاهية قد اخترع أوزان جديدة. وحاول كذلك بعض الشعراء، الخروج على نظام القافية الواحدة. إذ وجدوا فيها تقييدا لا تحتمله موضوعاتهم الجديدة. من ثم ظهر ما يسمى "بالمزدوجات".

 

       وهناك حركة تجديدية أخرى كان لها أثر كبير في تاريخ الشعر العربي. والتي ظهرت بالأندلس. فقد بدأ فن التوشيح متأثرا ومؤثرا بما كان منتشرا في جنوب فرنسا من شعر شبيه بالموشحات. وهو شعر التروبادور. وإن كان المرجح أن المحاولات الأولى في هذا الفن قد بدأت منذ نهاية القرن الثالث هجري. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر بدأت تظهر بوادر التجديد في بعض ما أنتجه فرانسيس مراس الحلبي. وأحمد الشدياق. ونجيب حداد.

 

          وقد كان تجديدهم مقصورا في البداية على التمرد على الموضوعات التي عرفها الشعر القديم، ثم الدعوة من خلال المجلات العربية المعاصرة آنذاك إلى نبذ القديم والأخذ بالجديد وانتهاج أساليب الشعراء الغربيين.

 

        وبعد ذلك ظهرت حركة التجديد في المهجر التي نمت في أحضان الثقافة والشعر الغربيين،"ولعل أبرز الثائرين على القديم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وتستهدف ثورتهما مفهوم الشعر وعناصره الشكلية والموضوعية. فالشعر من حيث مفهومه أصبح رسالة سامية يتنزلها الشاعر من عالم الروح ليؤديها بين الناس كما يقول جبران، أما اللغة فليست ألفاظا جامدة وبيانا وبديعا ومنطقا وإنما هي ترجمة للروح والحياة. أما الأوزان والقوافي فلا يعتبرونها من ضرورة الشعر. فهم لا يراعون وحدة البيت، في وحدة مكتملة، يكون البيت فيها جزءا حيا يكاد يستمد قوته ومعناه من التئامه مع سائر الأعضاء.

 

       وإذا تتبعنا امتدادات الاتجاه الرومانسي والاتجاه الرمزي، فسوف نلتقي مثلا بإلياس أبي شبكة وبسعيد عقل اللذين يأتيان في سيرورة التجديد في الشعر العربي: "يقول أبو شبكة في مقدمته "أفاعي الفردوس" إن الشعر لا يحدد فلا يقاس ولا يوزن، إذ انه تعبير عن الحياة، والحياة لا حدود لها ولا مقاييس. ونجد أيضا سعيد عقل في مقدمة "المجدلية" يؤكد أن الشاعر الحق لا يكون له أفكار وصور وعواطف قبل النظم. وعند النظم، بل يستحيل عليه أن يكتب شعرا إذا توفر له شيء من ذلك.

 

       من خلال هذا العرض التاريخي المتسلسل لحركة التجديد في الشعر العربي منذ العصر العباسي مرورا بالأندلس من خلال فن التوشيح. إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع شعراء المهجر والمدرسة الرومانسية والرمزية. فإنه يحق القول فعلا أن الشعر العربي إلى هذا الحد لم يخرج على جوهر التراث الشعري القديم ، فإنهم مهما غيروا من موضوعاتهم وتلاعبوا بالأوزان وبدلوا من القوافي، فإن أهم خصائص عمود الشعر العربي ظلت مسيطرة على جميع تلك الحركات التي كانت تجديدية حقا. ولكنها لم تصل إلى حد الحداثة.

 

       ستأتي موجة الحداثة في الشعر العربي بالفعل بعد الحرب العالمية الثانية عندما نشأت الدعوة إلى تطوير أوزان الشعر وقوافيه بما عرف بحركة الشعر الحر، ثم ظهرت حركة جديدة تدعو إلى فلسفة الشعر العربي ليجد له مكانا في صورة الشعر العالمية المتطورة. هذا وقاد الحركة الأولى شعراء عراقيون على رأسهم نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. ثم قاد الحركة الثانية شعراء لبنانيون على رأسهم يوسف الخال الوافد من أمريكا بعد هجرة طويلة وأدونيس بعدما غادر سوريا.

 

       وعليه، "فالشعر العربي الحديث قد استطاع انطلاقا من العراق أن يلعب دوره الرائد والمحفز في مشروع التحول الثقافي والاجتماعي، ولكن هذه الظاهرة ليست حدثا فريدا لا سابقة له، أو لغزا لدى من يعرفون التاريخ العربي جيدا، إن هؤلاء يعلمون أن الروح العربية روح شعرية بامتياز، وأن الشعر العربي كان على الدوام التعبير الأسمى عن تطلعاتها والسجل الوافي لتحركاتها كلها، هكذا تعرض مشروع الشعراء العراقيين إلى حركة الاعتراضات الواسعة من طرف النزعة المحافظة العربية. التي تعرضت هنا للهجوم في واحد من أمتن قلاعها. هذه الهجمة التي كانت في الوقت نفسه بداية لنضال صعب مع الحساسية العامة وسط واحد من أشد ميادينها ارتباطا بالدواخل وهو تعبيرها المميز والأكثر خصوصية."

 

       وقد تطورت المسيرة المجددة التي كان الشعراء العراقيون روادها منذ سنة 1947، ليواصلها العديد من شعراء العرب، هذا التطور جاء على شكل تدريجي بدأ بالتعرض إلى الشكل الوزني للقصيدة العربية، ثم اتجه صوب الأساس الشعري نفسه وعلاقته العضوية مع معمار القصيدة.[8]  وفي سياق هذا التطور الذي فتح الرواد العراقيون جانبا منه، يقول إحسان عباس: "وقد أصبح من المعروف أن الرواد العراقيين: نازك والسياب والبياتي كانوا هم رسل هذه الثورة بتأثير من الشعراء الانجليز، وكانت ثورتهم في شكلها الأولي تمثل تخلصا من رتابة القافية الواحدة. ( دون الاستغناء عن القافية تماما) وتنويعا في عدد التفعيلات في السطر الواحد (دون مبارحة الإيقاع المنظم)… إنما الذي يميز هذه الحركة عن كل ما سبقها أن اعتمادها للشكل الشعري الجديد أصبح مذهبا لا استطرفا، وأن إيمانها بقيمة هذا التحول كان شموليا لا محدودا، وأن أفرادها في حماستهم لهذا الكشف الجديد رأوا وما زالوا يرون. أن هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجميع أنواع التجربة الإنسانية إذا أريد التعبير عنها بالشعر."

 

       وتبقى مسألة مَنْ مِنَ الشعراء العراقيين الثلاثة كان السباق إلى هذه الوجهة الشعرية الجديدة. مثار اهتمام العديد من الدارسين.

 

       ولكن نازك في كتابها "قضايا الشعر العربي المعاصر" تشير إلى أنها أول من نشرت  قصيدة "حرة" عام 1947 ولكنها تعترف في الموضوع نفسه أن بدر شاكر السياب قد نشر في الشهر ذاته مجموعة شعرية تحمل عنوان "أزهار ذابلة" تحتوي على قصيدة حرة تحمل عنوان "هل كان حبا.

 

       وبغض النظر عن مسألة السبق التي كان طرفاها السياب ونازك، فإن عبد الوهاب البياتي لم يتأخر عن الإسهام في الحركة بنشاط يتبعه بعد ذلك آخرون من شعراء العراق وباقي أقطار البلاد العربية.

 

       هكذا، يمكن أن ندرك أن مجيء "البيت الشعري الحر" كان يشكل، في تلك الفترة ظاهرة عامة تطبع تطوير جيل شعري جديد، في العالم العربي. لقد كان البيت الحر يمثل إجابة حتمية لقوى شابة متمردة ضد تراث جامد ومجتمع كان يختنق في ثبات الأشكال التقليدية المتسمة بالقداسة.

 

       وقد تمكنت نازك الملائكة أن تجتاز بسهولة ونجاح، عتبة المسيرة المجددة التي شرعت فيها بكثير من الحذر، والتردد. وإذا كانت قد عملت على تعديل البنية الوزنية في القصيدة، متوصلة إلى تحقيق وحدة معينة بين المضمون والشكل الشعريين. فقد كانت تحرص في الوقت نفسه على عدم الابتعاد عن الأنماط التعبيرية التي شكلت ثورة مدرسة المهجر. وحركة "أبولو"  ومجموع الاتجاهات الرومنطقية والرمزية.

 

        أما السياب فكانت بدايته الشعرية مع الأشكال التقليدية، ثم تطورت بعد ذلك بتكسيره للقيود التقليدية، وتعتبر" أنشودة المطر" بمثابة القمة في تطور شعر السياب، ثم بعد ذلك بدأ في الانحدار الفني.

 

       من هنا يمكن أن نعتبر السياب بمثابة جسر العبور من القديم نحو الحديث. وكما يعبر أدونيس فإن: "تجربة السياب مع ذلك ريادة بدءا منها ومعها أخذ ينشأ للشعر العربي الجديد وسط تعبيري جديد. وهو الآن، من القوة والسيادة بحيث أنه يبدو إبداعا مستمرا.

 

       أما البياتي فقد اتخذ وجهة مغايرة تماما، وانفتح تطوره على أفاق أخرى. فبعد أن كان شاعر "الداخل" والاختيار الوجودي. أصبح باستغلاله للحرية التي يتيحها الشكل الجديد، معبرا عن الفرد ومفصحا عن خيبته. لكنه سرعان ما انصهر قلقه الشخصي في البؤس ونضال الشعب من أجل تحقيق آماله وتطلعاته.

 

       إلى هذا الحد، نكون قد تحدثنا عن مراحل النمو والتطور الأوليين لحركة الحداثة. أما فيما يخص الملامح الأساسية للقصيدة الجديدة. والتوجه الشعري بشكل عام لهذه الحركة فستأخذ موقعها داخل تجمع "شعر" الذي أسهم فيه العديد من الشعراء على رأسهم السياب وأدونيس وغيرهم.

 

       من  المؤكد أن تطور حركة الحداثة جاءت مع تأسيس تجمع شعر في لبنان والذي قاده يوسف الخال رفقة عدد من الشعراء ذوي أصل سوري على رأسهم أدونيس الذي يعتبر من الأعمدة الأساسية في الحركة، فقد أعلن هذا التجمع عن تأسيس مجلة فصلية موجهة، بصورة حصرية لخدمة قضية الشعر والدفاع عنها وحملت المجلة تسمية "شعر" التي صدر عددها الأول في كانون الثاني سنة (1957م). لكن هذا التجمع لم يدم طويلا، خصوصا وأن أدونيس الذي يمثل العمود الفقري لهذا التجمع سيغادره بسبب خلاف حدث بينه وبين يوسف الخال سنة(1963). ليتبنى مرحلة جديدة من مراحل الحداثة وهي "الكتابة الجديدة" وعن انفصاله يقول: "أدى عملنا سوية في مجلة شعر، يوسف الخال وأنا، بالتعاون مع الأصدقاء الآخرين الذين كانوا يكونون هيئة تحريرها ـ القريبة العاملة والبعيدة المتعاطفة ـ أدى عملنا إلى ترسيخ مناخ جديد، نظريا وفنيا، بحيث أصبحت خارج الشعر كل محاولة لتجديد الشعر كما كان يحدده النظريون القدامى. وفي أواخر عملنا المشترك أخذ يتضح لي أن هذا الذي حققناه، وهو مهم جدا، لا يكفي خصوصا أن معظم هؤلاء العاملين. وقفوا عند حدود تغيير الطريقة الموروثة واكتفوا بهذا التغيير."

 

       والى جانب ما ذكرناه، يجدر بنا أن نشير هنا إلى مسالة أثيرت حول حركة الحداثة في الشعر العربي الحديث، والتي يعتبرها البعض نسخة طبقا لأصلها في الشعر الغربي، وبزعمهم هذا يذهبون إلى أن الحداثة ما هي إلا كغيرها من المذاهب الفكرية، والتيارات الأدبية التي سبقتها إلى البيئة العربية، كالواقعية، والرمزية، والرومانسية، والوجدانية…، بل هناك من يعتبرها أخطر من ذلك. حيث يرى فيها حملة على الدين واللغة العربية على حد سواء، فوجدت في فكرنا وأدبنا العربي تربة خصبة، سرعان ما نمت وترعرعت على أيدي روادها العرب، أمثال غالي شكري، والمنظر لها علي أحمد سعيد أدونيس وزوجته خالدة سعيد من سوريا وعبد الله العروي بالمغرب، وكمال أبو ديب من فلسطين، وصلاح فضل، وصلاح عبد الصبور من مصر، وعبد الوهاب البياتي من العراق، هؤلاء وغيرهم من رواد الحداثة العربية لا يمثلون إلا ما رسمه أول من نظر للحداثة في الغرب، بودلير ثم رامبوا ثم مالارمييه، وبول فاليري كما نجد أيضا الأمريكي إزرا باوند، والانجليزي توماس إليوت.

 

       ونورد هنا مقطعا من كلام غالي شكري يؤكد ما أشرنا إليه حيث يقول: " فالحق أن قطاعا عريضا من شعرائنا قد اتصل بفن إليوت في وقت مبكر، لا لأن "لغة الحديث" هي التي جذبتهم في هذا الفن، بل لأن توقيت اللقاء بين جيلنا والحضارة الأوربية صادف من ناحية ازدهار إليوت على النطاق العالمي."

 

        إضافة إلى أن أدونيس ـ باعتباره المنظر الأول للحداثة في الشعر العربي الحديث ـ يعتبر في معرض الرد على من يتبنى فكرة تبعية الحداثة العربية للحداثة الغربية.  أصحاب هذا القول جاهلين للشعر الغربي والعربي على حد سواء. كما أن أدونيس يرى: "أن بعض الشعراء الغربيين الذين يعتبرون أساس الحداثة في الغرب، فهم مع ذلك لم يأخذوا الحداثة من تراثهم. 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire