الحداثة

على الرغم من الاختلاف بين الكثير ممن أرخوا للحداثة الأوربية حول بدايتها الحقيقية وعلى يد من كانت, فإن الغالبية منهم يتـفقون على أن تاريخها يبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي بودلير، وهذا لا يعني أن الحداثة قد ظهرت من فراغ ، فإن من الثابت أن الحداثة رغم تمردها وثورتـها على كل شيء، حتى في الغرب، فإنها تظل إفرازاً طبيعياً من إفرازات الفكر الغربي الذي قطع صلته بالدين على ما كان في تلك الصلة من انحراف، وذلك منذ بداية ما يسمى بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي، حين انفصلت المجتمعات الأوربية عن الكنيسة، وثارت على سلطتها الروحية التي كانت بالفعل كابوساً مقيتاً محارباً لكل دعوة للعلم الصحيح، والاحترام لعقل الإنسان، وحينها انطلق المجتمع هناك من عقاله بدون ضابط أو مرجعية دينية، وبدأ يحاول أن يبني ثقافته من منطلق علماني بحت فظهرت كثير من الفلسفات والنظريات في شتى مناحي الحياة. وطبيعي ما دام لا قاعدة لهم ينطلقون منها لتصور الكون والحياة والإنسان، ولا ثابت لديهم يكون محوراً لتقدمهم المادي، ورقيهم الفكري والحضاري، أن يظهر لديهم كثير من التناقض والتضاد، ولا جامع بين هذه الأفكار إلا أنها مادية ملحدة، ترفض أن ترجع لسلطان الكنيسة الذي تحررت من نيره قبل ذلك.

فكان من أول المذاهب الأدبية الفكرية ظهوراً في الغرب: "الكلاسيكية" الذي كان امتداداً لنظرية المحاكاة التي أطلقها أرسطو الأب الروحي للحضارة الغربية، وكما قال إحسان عباس: " فإن الكلاسيكية تؤمن أن الإنسان محدود في طاقته، وأن التقاليد يمكن أن تكون ذات جوانب حسنة جميلة، فهي تميل دائماً إلى التحفظ واللياقة ومراعاة المقام والخيال الكلاسيكي خيال مركزي، مجند في خدمة الواقع".

ثم جاءت الرومانسية فكانت ثورة وتمرداً على الكلاسيكية، فقدست الذات والبدائية والسذاجة ورفضت الواقع، ادعت أن الشرائع والتقاليد والعادات هي التي أفسدت المجتمع، ويجب أن يجاهد في تحطيمها، ومع كل هذا الرفض والثورة وعدم وجود البديل لدى هذا المذهب، فشل الرومانسيون في تغيير الواقع، فأوغلوا في الخيال المجنح والتحليق نحو المجهول. يقول أحد رموزهم ويدعى (وايتمان): "لو سرت مع الله في الجنة وزعم أنه جوهريا أعظم مني، فإن ذلك ليؤذيني وسأنسحب بالتأكيد من الجنة". وقد كان من أساطين هذا المذهب في الغرب : بايرون، وشيلي، وكيتس، ووردزورث، وكولريدج، وشيلر . وأخذ هذا المذهب الأدبي الفكري في بلاد العرب: شعراء المهجر، ومدرسة الديوان، وجماعة أبولو، على اختلاف بينهم في مقدار التأثر به.

ثم كان هناك التطور إلى المذهب البرناسي، ثم المدرسة الواقعية التي تطورت إلى الرمزية التي كانت الخطوة الأخيرة قبل الحداثة. وكان من رموز المدرسة الرمزية التي تمخضت عنها الحداثة في الجانب الأدبي على الأقل، الأمريكي إدغار ألن بو، وقد تأثر به كثير من الرموز التاريخية للحداثة مثل: مالارميه، وفاليرى وموباسان، وكان المؤثر الأول في فكر وشعر بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان.
.
 وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفاً عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق (ابداع بلا وصاية)، وبالفعل كانت حياته لا علاقة لها بالحق ولا الأخلاق ولا الجمال أيضاً وكذلك شعره وأدبه؛ فقد كانت حياته موزعة بين القمار والخمور، والفشل الدراسي والعلاقات الفاسدة، ومحاولة الانتحار بالأفيون، حتى قيل عنه عند موته في إحدى الصحف الأمريكية "ومما يبعث الأسى لموته، هو ـ قبل كل شيء ـ الاعتراف بأن الفن الأدبي قد فقد نجماً من أسطع نجومه ولكن من أمعنهم في الضلال"

 وعلى خطى إدغار سار تلميذه بودلير أستاذ الحداثيين، ممعنا في الضلال، وبعيداً عن الحق والأخلاق . وكان يعتبر عميد الرمزية والخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل، وإلا فهناك روافد أخرى ساهمت في تشكيل الحداثة. وقد نادى بودلير بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق، ويقول عبد الحميد جيدة: " لقد قام المذهب الرمزي الذي أراده بودلير على تغيير وظيفة اللغة الوضعية، بإيجاد علاقات لغوية جديدة، تشير إلى مواضيع لم تعهدها من قبل … ويطمح أيضاً إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغة الشعرية، ولذا لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهود في الشعر الرمزي"
 وهذا هو بالضبط ما نقرأه ونسمعه من أدباء الحداثة المحليين عندنا اليوم، بعد ما يقارب مئة عام على ظهور رمية بودلير وعبثيته وذاتيته. أليس هذا غريباً مع دعواهم التجاوز للسائد والنمطي والاجترار من النماذج السابقة كما يسمونـها ؟؟ 
ويقول محمد برادة: "الخيبة التي انتهى إليها بودلير من مراهنته على حداثته، ليس فقط أن الشاعر بودلير يعاني موت الجمال ويبكيه .. إنه يعاني كذلك غياباً، لا غياب الله أو موته؛ بل أكثر من ذلك. الحداثة تغلف وتقنع غياب البراكسيس وإخفاقه بمعناه الماركسي، والبراكسيسي الثوري الشامل، وإنها تكشف هذا الغياب، وستكون الحداثة داخل المجتمع البرجوازي، هي ظل الثورة الممكنة"

ويقول غالي شكري " وقديماً كان بودلير نبيا للشعر الحديث حين تبلور إحساسه المفاجئ العليل، بحياة فردية لا تـنسجم مع المثل التي ينادي بها العصر الذي يعيش فيه. 
ولتعرف من هو نبي الحداثة هذا الذي يقدسونه وينعتونه بكل جميل، أذكر لك بعض ما ذكره عنه مصطفى السحرتي في مقدمة ترجمة لديوانه (أزهار الشر): "لقد كانت مراحل حياته منذ الطفولة نموذجاً للضياع والشذوذ، ثم بعد نيل الثانوية قضى فترة في الحي اللاتيني حيث عاش عيشة فسوق وانحلال، وهناك أصيب بداء الزهري، عاش في شبابه عيشة تبذل وعلاقات شاذة مع مومسات باريس، ولاذ في المرحلة الأخيرة من حياته بالمخدرات والشراب"وقد توفي في الدائرة السادس عشرة بين إتوال و تروكاديرو في زقاق بمأوى الصحة التي كان يشرف على رعايتها الدكتور دوفال.
ويقول إبراهيم ناجي مترجم ديوان (أزهار الشر) لبودلير: "إن بودلير كان يحب تعذيب الآخرين ويتلذذ به، وكان يعيش مصاباً بمرض انفصام الشخصية
 ويكفي للدلالة على خسته أن فرنسا على ما فيها من انحلال وميوعة ومجون وفساد، منعت نشر بعض قصائده عندما طُبع ديوانه في باريس سنة 1957 م . ويقول عنه كاتب أوروبي: "إن بودلير شيطان من طراز خاص"، ويقول عنه آخر: "إنك لا تشم في شعره الأدب والفن، وإنما تشم منها رائحة الأفيون". هذا هو بودلير أبو الحداثة الذي تسود صفحات صحفنا بالحديث عنه والاستشهاد بأقواله وأشعاره.

وكان من رواد الحداثة الغربيين بعد بودلير (رامبو)، وهو كما يقول عبد الحميد جيدة: " دعا إلى هدم عقلاني لكل الحواس وأشكال الحب والعذاب والجنون، ودعا إلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى، وسماع ما لا يسمع، وفي رأيه أن الشاعر لا بد أن يتمرد على التراث وعلى الماضي, ويقطع أية صلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية …. وتميز شعره فنيا بغموضه، وتغييره لبنية التركيب والصياغة اللغوية عما وضعت له، وتميز أيضاً بالصور المتباعدة المتناقضة الممزقة"
وعلى آثاره كان (مالارميه) و (بول فاليري)، ووصلت الحداثة في الغرب شكلها النهائي على يدي الأمريكي اليهودي عزرا باوند، والإنجليزي توماس إليوت، وقد تأثرت بهم الموجات الأولى من الحداثيين العرب مثل : السياب، ونازك، والبياتي، وحاوي، وأدونيس وغيرهم تأثراً كبيراً، وتعتبر قصيدة الأرض الخراب لإليوت هي معلقة الحداثيين العرب بما حوته من غموض ورمزية، حولت الأدب إلى كيان مغلق، تتبدى في ثناياه الرموز والأساطير، واللغة الركيكة العامية، إلى آخر ما نراه اليوم من مظاهر لأدب الحداثيين اليومي . ثم واصلت الحداثة رحلتها حين قادها مجموعة من الشيوعيين مثل : نيرودا، وأراجون، وناظم حكمت، ويفتشنكو؛ أو من الوجوديين مثل: سارتر, وعشيقته البغي: سيمون دى بوفوار، والبيركامو.

هذا هو بتعميم وإيجاز شديد تاريخ الحداثة الغربية، وقد حدد الحداثي الشيوعي العربي غالي شكري الروافد التي غذت بذرة الحداثة الخبيثة فقال:
 "كانت هذه المجموعة من الكشوف تفصح عن نظرة تاريخية تستضيء بالماضي، لتفسر الحاضر وتتـنبأ بالمستقبل، فالمنهج الجدلي والمادية التاريخية يتعرفان على أصل المجتمع، ثم يفسران أزمة العصر أو النظام الرأسمالي، ثم يتـنبآن بالمجتمع الاشتراكي الذي ينعدم فيه الصراع الطبقي. أما الدارونية فتتعرف على أصل الإنسان العضوي ثم تفسر كيانه الراهن وتتـنبأ بالسوبرمان. وهكذا الميثولوجية تتعرف على أصل التكوين العقائدي للبشرية، ثم تفسر القلق العقائدي المعاصر، وتتـنبأ بما سيكون عليه حال الإنسانية القادمة، ومعنى ذلك أن رؤيا القرن التاسع عشر هي في جوهرها رؤيا علمية عقلانية تاريخية تستهدف الإنارة الكاملة للإنسان .

وهكذا انتهت الحداثة في النهاية إلى الجمع بين ضلالات البشر، فمن شيوعية مادية إلى دارونية تقول : "بأن أصل الإنسان حشرة "، وميثولوجية تنكر أن يكون الأصل في الأديان التوحيد، وأن الإنسان الأول ما لجأ إلى التدين إلا لجهله بالطبيعة وخوفه منها، حين لم يستطع أن يواجهها بالتفسير العلمي الصحيح

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire